’’المواطن العادي‘‘؛ أصبح رقما في المعادلة السياسية الأمريكية...هذا ما حاولنا التأكيد عليه في مقال الأسبوع الماضي...كذلك ’’الطبقة الوسطى‘‘ التي حضرت بعد غياب ــ أو لنقل تغييب متعمد منذ تولى ترامب ــ وهو ما نتحدث عنه اليوم...
فكل من التيارين النقديين البازغين: الاجتماعي(اليساري)، والشعبوي(اليميني)؛ اللذين تبلورا
خارج الحزبين الكبيرين من قاعدة اجتماعية قوامها الشباب، بالأساس، استطاعا التحرك بعيدا عن جماعات المصالح/الضغط ، والكتل التصويتية التقليدية، و "الكرتلات" الاقتصادية الاحتكارية، والقوى التقليدية التي يتشكل منها الحزبان. حيث استطاعا نتيجة هذا التحرك أن يفرضا الاهتمام بحياة المواطنين العاديين ومستقبلهم. وإذا كان المراقبون قد سجلوا أن قوام هذا التحرك هم الشباب. فإن القاعدة الاجتماعية المحركة لهذا القوام تنتمي للطبقة الوسطى...
وتشير العديد من الدراسات التي تناولت تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية إلى العلاقة الوثيقة بين الأزمات الاقتصادية وتنامي الاهتمام السياسي بالطبقات الاجتماعية الوسطى والدنيا وحضورها على "أجندة" الأولويات السياسية...
جرى هذا أولا: عقب أزمة 1929 التي عرفت "بالكساد العظيم". ما ضغط على "فرانلكين روزفلت" (رئيس أمريكا الأشهر من 1933-1945)؛ بتطبيق سياسات تراعي البعد الاجتماعي. وهي السياسات التي عُرفت بسياسة "الصفقة الجديدة"؛ والتي تم اتخاذها حماية ــ في المقام الأول ــ للعمال والمنظمات المدنية وملايين من المزارعين و موظفي الحكومة و جميع الجماعات العرقية ــ التي ينتمي غالبية قوامها إلى الطبقة الدنيا من الجسم الاجتماعي ــ لما منحته إياهم من ضمانات اجتماعية غير مسبوقة.
وتكرر ما سبق، ثانيا، بعد تسعين سنة تقريبا، في عام 2008، فيما عُرف بالأزمة المالية الكارثية التي تعُد الأسوأ في تاريخ الإنسانية...حيث وجدنا "باراك أوباما" (2008 ــ 2015) يولي اهتماما خاصات بالطبقة الوسطى...حيث طرح ما لم تطرحه قيادة أمريكية من قبل من حيث الاهتمام "بالطبقة الوسطى الأمريكية" بشكل غير مسبوق. فقام في الستة شهور الأولى من توليه الحكم بتشكيل ما سُمي ــ آنذاك ــ "بقوة العمل الخاصة بالطبقة الوسطى"؛...وقد انطلقت هذه القوة في عملها (رأسها نائبه بايدن آنذاك ــ وهو أحد مرشحي الرئاسة الحاليين عن الحزب الديمقراطي) من أن: الطبقة الوسطى تتحرك إلى الهاوية بسرعة، على عكس الأثرياء...وعليه قامت بما يلي: أولا: تقويم وضع الطبقة الوسطى. ثانيا: متى/لماذا تنكمش؟، ومتى/لماذا تنمو؟. ثالثا: كيف تتم حماية الطبقة الوسطى بشرائحها من خلال سياسات وإجراءات تنموية ناجعة خاصة في مجالي التعليم والصحة؟...(راجع مقالنا أوباما والأولوية للدولة والطبقة الوسطى ـــ 2009 وفي كتابنا: ما بعد الإمبراطورية الأمريكية: ثلاثية الثروة والدين والقوة ــ قيد النشر)...
ويبدو لي، أنه من المفيد أن نبين القضايا محل الاهتمام للمرشحين وأطروحاتهم المختلفة حولها. بعيدا عن المتابعة الإعلامية الوصفية والكمية للانتخابات الأمريكية. خاصة تلك التي تعكس التحولات السياقية والتفاعلات المجتمعية لأمريكا الداخل. والتي ضغطت في اتجاه بلورة رؤى انتخابية غير نمطية خاصة فيما يتعلق "بالطبقة الوسطى". ما جعل هذا الملف محورا أساسيا في هذه الرؤى للمرشحين الديمقراطيين تحديدا...أو "تيار النقد الاجتماعي"؛ من خلال رؤى كل من: "بيرني ساندرز"، و"إليزابيث وارين"، و "جو بايدن"، حول ملف الطبقة الوسطى ليكون من أولويات جدول أعمالهم الانتخابي السياسي...نعم خرجت "وارين" من سباق الترشح للحزب الديمقراطي هذا الأسبوع، وبقي "ساندرز" و "بايدن" في السباق(وقت كتابة المقال يتقدم "بايدن" على ساندرز بفوزه بولاية ميتشجان). إلا أن أطروحات المرشحين حول الطبقة الوسطى ستظل فاعلة ومؤثرة لأنها تعد استجابة للقوة الاجتماعية والجيلية التي تشكل التيار النقدي الاجتماعي...ومن ثم ضرورة فهمها بغض النظر عن من سيفوز بسباق الترشح...
بداية نشير إلى أن "وارين" درست الحقوق في جامعة هارفارد، وتخصصت في قوانين الإفلاس. وأشرفت على برنامج إغاثة الأصول المتعثرة خلال أزمة 2008 المالية. كما شغلت منصب مستشارة لوزير الخزانة الأمريكي في مكتب حماية المستهلكين في فترة الرئاسة الأولى "لباراك أوباما"...وهناك كتابان ــ صدرا منذ عامين ــ يعكسان أهمية هذه المرأة وأفكارها التي أصبحت في عام 2012 أول امرأه تفوز بمقعد في مجلس الشيوخ عن ولاية ماساتشوستس...كتبت الأول بقلمها عنوانه: "هذا النضال نضالنا: معركة انقاذ الطبقة الوسطى الأمريكية". و كتبت الثاني كاتبة صحفية وعنونته: "إليزابيث وارين: نضالها، عملها، حياتها"...
قضية الطبقة الوسطى؛ هي قضية هذه السيدة...حيث قامت بدراسة مسار هذه الطبقة من خلال مداخيلها ومصروفاتها في الفترة من 1970 إلى 2015 . ورصد اتجاهات الصرف وأولوياتها ونسبة الزيادة فيها خلال الفترة الزمنية المذكورة. ورصدت أنها تأتي كما يلي: أولا: رعاية الأطفال وقد زادت بنسبة 953%. ثانيا: تكلفة التعليم الجامعي وقد زادت 275%.ثالثا: التأمين الصحي وقد زاد بنسبة 104%. رابعا: السكن وقد ارتفعت تكلفته بنسبة 57%. خامسا: الانتقالات وقد زادت بنسبة 11%. وبشكل عام انخفض متوسط دخل بعض الأسر التي يقل سن أربابها عن 65 عاما بحوالي 3000 دولار خلال الفترة من 2000 إلى 2008 وقت رئاسة المحافظين الجدد: السياسيون والدينيون...ما جعل الطبقة الوسطى ــ فعليا ــ تحت "القصف والاعتداء" المستمر والممتد على مدى عقود (بتعبير وارين)...ما يهدد مستقبل أمريكا وعقدها الاجتماعي بل وفكرتها. ومن ثم هناك ضرورة لإنقاذ العامود الفقري للمجتمع الأمريكي...يبدأ بعدم المساس بمشروع الرعاية الصحية الذي انطلق وقت أوباما". وتجلى، ذلك، في حملتها من خلال شعار "انقذوا رعايتي" من محاولات "ترامب" لإلغائه. والحد من هيمنة الشركات الكبرى الاحتكارية على الحياة السياسية الأمريكية وإعادة توجيه سياساتها بما يراعي الطبقة الوسطى. وذلك بأن يدفع الأثرياء المزيد من الضرائب. ما يحقق مبدأ المساواة الغائب...نتابع في مقال الأسبوع القادم، أفكار التيار النقدي الاجتماعي حول الطبقة الوسطى...