’’المواطن العادي...المواطنون العاديون...المواطنون على المستوى القاعدي‘‘...
كلمات تتكرر في الكثير من الكتب والتقارير التي صدرت ولم تزل تصدر حول "التفاعلات المركبة" التي يشهدها الداخل الأمريكي والتي تجعل من الانتخابات الأمريكية لعام 2020 انتخابات تاريخية. ذلك لأن "المواطن العادي" بات رقما في المعادلة السياسية والعملية الديمقراطية المتعارف عليها تاريخيا في الولايات المتحدة الأمريكية...ولكن من هو المواطن العادي؟
’’المواطن العادي‘‘؛ هو المواطن الذي يعيش في أمريكا خارج دوائر النخبة الحاكمة، وشبكات المصالح المالية الفاعلة، والكتل التصويتية المؤثرة...أنه المواطن الذي يعيش "بذراعه" وقدراته الذاتية، وعلمه ــ كثر أو قل ــ في الجسم الاجتماعي الأمريكي...المواطن العادي" الذي يرغب في ألا يكون ترسا في ماكينة يصب نتاجها في أيدي القلة الثروية. ما يزيد من اللامساواة، وهزيمة العقد الاجتماعي والسياسي التاريخي حول حلم الرخاء الأمريكي للجميع‘‘...بحسب دراسة بعنوان: "اللامساواة والانحدار الأمريكي: العقد المهزوم"“ نشرت في دورية فورين أفيرز الشهيرة(نوفمبر/ديسمبر 2011)...وأن يعيش آمنا ومحصنا من "مخاطر" المغامرات المالية التي تؤدي إلى أزمات مزمنة يدفع ثمنها ــ دوما ــ المواطنون العاديون...
وبعيدا عن "تقنيات" هذه الانتخابات والتي نشهدها كل أربعة أعوام من: أولا: تنافسات داخلية في داخل الحزب الذي يستعد لمواجهة الرئيس المنتخب الذي تنتهي مدة رئاسته. وثانيا: حملات انتخابية بين الرئيس الذى يسعى لتجديد انتخابه وبين الرئيس الذي يستقر عليه الحزب الآخر المنافس. وثالثا: التحرك الدؤوب الذي تقوم به شبكات المصالح في تدوير العملية الانتخابية داخل كل حزب وبينهما. ورابعا: النشاط الملحوظ الذي يصيب الكتل التصويتية(أكتب هذا المقال في ذروة معركة الثلاثاء الكبير. حيث يتم فيها حسم من هو مرشح الحزب الديمقراطي الذي سوف يخوض انتخابات 2020 أمام ترامب. حيث حصرت المعركة المنافسة بين "بايدن" و"ساندرز")...
أقول بعيدا عن "تقنيات الانتخابات"، تشير كثير من الكتب والدراسات إلى أنه منذ بداية هذا العقد وإلى يومنا هذا طرأت تحولات كثيرة على تفاعل الكتلة المواطنية من خارج المؤسسات التقليدية: الحزبية، والمصلحية، والكتلوية التصويتية،...،إلخ. والتي تعبر بالأكثر عن هموم المواطنين العاديين من المنتمين للطبقة الوسطى بشرائحها. كذلك الطبقات الفقيرة. والتي يحتل فيها جيل الشباب النسبة الأكبر...
ومع مرور الوقت، تبلور السلوك السياسي والمدني لهذه الكتلة المواطنية في هيئة "تيار نقدي" لكل ما يهدد حقوقهم كمواطنين عاديين...انتظمت، إذن، الطبقة الوسطى بشرائحها التراتبية المختلفة، والطبقة الفقيرة، كقوة اجتماعية وسياسية من خارج الحزبين الكبيرين للدفاع عن مصائر مواطنيها.
وهو التفاعل الذي فرض على المرشحين تبني خطابا سياسيا نقديا اجتماعيا يتضمن ما يلي: أولا: الاهتمام بالشأنين الاقتصادي والاجتماعي للمواطنين العاديين. ثانيا: الحفاظ على حقوق هؤلاء المواطنين التي تم اكتسابها تاريخيا مثل برنامج الرعاية الصحية الذي تم تحريره ــ نسبيا ــ من سطوة الشركات وتم تكريسه حقا اجتماعيا خالصا بتشريع برلماني. ثالثا: تبني خطابا حقوقيا شاملا.
وفي المقابل، سوف نجد "ترامب" مع نقدنا الدائم له، إلا أن الدراسات الأمريكية تعتبره قد استطاع ــ إضافة للقوى اليمينية التقليدية الداعمة للجمهوريين ــ أن يعبر أيضا عن فئات من المواطنين العاديين من خلال إثارته لحالة "شعبوية" في أسواط هؤلاء المواطنين.
المواطنون العاديون، بالأخير، نجحوا بتأثير الواقع المجتمعي عليهم، أن يشكلوا تيارا نقديا بلونين هما : أولا: اللون النقدي ذات الخطاب الاجتماعي (اليساري تجاوزا). وهؤلاء يمثلون القاعدة الاجتماعية للقوة السياسية المتمردة على الحزب الديمقراطي مثل: "برني ساندرز" و"إليزابيث وارين". وثانيا: اللون النقدي الشعبوي(اليميني تجاوزا). وأولئك يتبعون الحزب الجمهوري وتحديدا "دونالد ترامب"...وجميع المراقبين يؤكدون أن هذا الحضور اللافت للمواطنين العاديين في المجال السياسي يعد نقطة تحول لافتة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية...
والمفارقة الجديرة بالذكر، أن الباحثين يصفون هذا التحول التاريخي بالثورة. ويعتمد كل فريق هذا الوصف...أي أن التيار النقدي الاجتماعي(اليساري)، والتيار النقدي الشعبوي(اليميني) كلاهما يستخدم تعبير "ثورة" للتعبير عن أفكارهم وحركيتهم...وفي هذا المقام يمكن مراجعة ما كتبه ساندرز: ثورتنا، اصدار 2017"؛ وما كتب عنه في السنوات الأخيرة. كذلك ما كتبته مطلع هذا العام "كت ماكفرلاند"، السياسية المخضرمة، في كتابها: "ثورة: ترامب، واشنطن، و نحن الناس"...وغيره من كتب...وكلها تؤكد أن المواطنين العاديين في الولايات المتحدة الأمريكية قد صاروا رقما فاعلا وحيا ومؤثرا في المعادلة السياسية/العملية الديمقراطية الأمريكية...
وتبين شعارات الحملات الانتخابية للمرشحين الديمقراطيين من جهة. وسياسات ترامب الاقتصادية فيما يتعلق ــ تحديدا ــ بالحمائية الاقتصادية والتجارية من جهة أخرى. المدى الذي قطعه السياسيون في الاستجابة لمطالب كتلة المواطنين العاديين. أخذا في الاعتبار، في تقديري، أن الديمقراطيين فيما يتبنون هم أكثر وضوحا ومباشرة وصدقا للبنود الواردة في برامجهم السياسية والانتخابية من: أولا: انحياز حاسم للفقراء والطبقة الوسطى بشرائحها. ثانيا: تقديم رؤية شاملة للتقدم. ثالثا: الوعي بمن هم الخصوم الاجتماعية والاقتصادية المعوقة لمصالحهم، والمعمقة للامسواة. رابعا: الحل الجذري للمسألة المجتمعية/الاجتماعية المتفاقمة التي قسمت/صدعت أمريكا بين أمريكا وأمريكا أخرى باحثة عن المواطنة (راجع مقالنا السابق).خامسا: تجديد حلم الرخاء الأمريكي على قاعدة العدالة بين الجميع على اختلاف اللون والجنس والطبقة، والعرق، والدين، والجنس، والجيل،...كذلك اختلاف الجهة: الشمال، والجنوب،...
وينبع ما سبق، من هموم الناس الحيايتية والمعيشية اليومية التي تبدو بسيطة وهو ما عبرت عنه بامتياز "وارين" في كتابها: "هذه المعركة معركتنا: معركة انقاذ الطبقة الوسطة الأمريكية"(2018). وخاصة الفصل الأول المعنون: الطبقة المتوسطة المتلاشية"...انطلاقا من سؤال أساس ــ ليس أين الخطأ؟ وإنما ــ ’’أين الصواب‘‘؟ في الخيارات والسياسات الاقتصادية التي تم اتباعها تاريخيا. وأدت إلى أزمات اقتصادية متعاقبة منذ 1796 إلى اليوم...ونتتبع، في مقالنا القادم، مسار هذه الأزمات وتأثيرها الإقصائي على المواطنين العاديين...