أمريكا الأخرى الباحثة عن المواطنة

بعيدا عن ما ينقله الإعلام عن المواقف والسياسات والأداءات الخاصة بالسياسة الخارجية للإدارة الأمريكية...وبعيدا عن المتابعة النمطية للاستحقاق الانتخابي الرئاسي الذي يتكرر كل أربع سنوات...هناك ’’أمريكا ــ ولايات متحدة أمريكية ــ أخرى‘‘؛ لا نراها. ’’أمريكا أخرى‘‘ لها حقوق ومطالب...لم تزل تبحث عن المواطنة التي نص عليها دستور الآباء المؤسسين عبر التأكيد على العدالة والمساواة...كيف؟


تجيب الدورية الأشهر عالميا، في عددها المزمع صدوره خلال يومين والذي يحمل تاريخ 2 مارس، أي مجلة "التايم" عبر ملف ــ شغل أكثر من 50 صفحة من صفحات العدد ــ حمل العنوان التالي: ’’المساواة الآن‘‘؛...حيث يجرون مقارنة بين مطالب المسيرة الكبرى التي ذهبت إلى واشنطن مارس 1963 للمطالبة بالمساواة في الحقوق المدنية للجميع دون تمييز ومدى ما تحقق منها بعد 57 سنة...ففي عام 1963، وفي وقت كان الكونجرس لم يزل ينظر في إمكانية التشريع لاستصدار قوانين الحقوق المدنية. كانت المظاهرات تجتاح العديد من الولايات من أجل المساواة. فلقد كانت نسبة البطالة بين البيض أقل من 5%. بينما كانت بين السود تزيد على ال15%. والأهم هو صعوبة ممارسة المساواة الفعلية في الكثير من المجالات. فلقد بقي السود في كثير من المناطق لا يمكن أن: يدخلوا أماكن يرتادها البيض، ولا يدخلون من الأبواب الأمامية للأماكن العامة حيث عليهم أن يدخلوا من الأبواب الخلفية، ولا يستخدمون دورات المياه التي يستخدمها البيض،...،إلخ. أي أن، وكما تشير "التايم"، حلم "توماس جيفرسون"(1743 ــ 1826)، الرئيس الأمريكي الثالث(1801 ـ 1809)، بأن "أمريكا ستقدم نموذجا للمواطنة والمساواة التامة يقدم للعالم" بقي بعيد المنال منذ 1763 تاريخ انطلاق الثورة الأمريكية وحتى مسيرة واشنطن في 1963. حيث لم يتم تفعيل وثيقة إعلان الاستقلال التي وضعها "جيفرسون" عام 1776 وغيرها من نصوص قانونية وتشريعية.
ولمزيد من التفسير حول الوضع الراهن "لأمريكا غير المرئية" تقدم "التايم" الملف بالمقولة التالية: "نعم تحققت الكثير من الخطوات من أجل القيم المثالية التي توافق عليها مؤسسو الولايات المتحدة الأمريكية"...ولكن الواقع يقول أن "المساواة الحقيقية “True Equality” والصحيحة لم تكتمل بعد"...لماذا؟...تجيب "التايم" بأن "أمريكا اليوم، ونظرا لتزايد اللامساواة بين القلة الثروية وأغلبية المواطنين قد خلقت حالة من عدم التكافؤ بين الأمريكيين. فباتت، ليس فقط، الطبقات الفقيرة، وإنما الطبقة الوسطى بشرائحها تعاني اللامساواة". إنها "لا مساواة موجهة للجميع. ولكن السود يشعرون بها أكثر من أي وقت مضى". ذلك، لأن القلة الثروية ــ البيضاء تحديدا ــ توظف التشدد الديني لحماية مصالحها وامتيازاتها. فأعادت الترويج العلني لمقولة "الواسب" أو أفضلية وأولية الأمريكي الأبيض الذي تعود أصوله إلى الأنجلوسكسونية وينتمي إلى المذهب البروتستانتي. وهو ما تورط في ترديده علنا "ترامب" في واقعة "شارلوتسفيل بولاية فرجينيا" التي وقعت في 2017. وظهر منحازا إلى ما أطلقت عليه في هذا المكان وصف مبكر: "جماعات الكراهية والعنف البيضاء" والتي تضم كل من: "العرقيين، والفاشيين والنازيين الجدد"...وهو ما جعلنا أيضا إلى أن نشير مبكرا إلى أن الجسم الاجتماعي الأمريكي في الولايات المتحدة الأمريكية أصبح يواجه خطرا مركبا يتسم ب "التصدع والصراع" معا...
في هذا الإطار، تقدم "التايم" تحليلا طبقيا متميزا تحلل فيه كيف تضررت الطبقة الوسطى بشرائحها وما دونها أسفل الجسم الاجتماعي والتي تضم طبقة الفقراء. حيث رسمت ملامح الأزمة التي تطال الجميع سودا وبيضا بحكم الموقع الطبقي. أخذا في الاعتبار أن السود يكونون أكثر احساسا بالأزمة لأن السياق الأمريكي لم يزل يشف تماما من أثار العنصرية مع وجود ادارة ليست عادلة اقتصاديا وثقافيا. وقد دللنا على ذلك من خلال الكثير من كتاباتنا حول الشأن الأمريكي وأثر السياسات النيوليبرالية أو السوبر رأسمالية على الواقع...
لذا تذكر بوضوح "التايم" أنه لا يمكن القول بأن اللامساواة الراهنة تصطبغ بصبغة "تمييزية عرقية لونية" مباشرة حيال السود. إلا أن إشكاليات الواقع الاقتصادي الراهن قد كشفت عن أزمة طبقية حادة يعاني منها الأمريكيون بحسب موقعهم الطبقي بيضا كانوا أو سودا. تكون أكثر إيلاما للسود...ما دفع "التايم" أن تشجع جميع المواطنين، أن ينشطوا من أجل إحداث تحسن اقتصادي. مع التأكيد على السود أن يبذلوا جهدا أكثر"...وهو ما وصفته الدورية "بنمط البقاء حيا"...
وحاولت "التايم" من خلال جهد علمي رفيع المستوى وصحفي معتبر أن ترسم خريطة اللامساواة الأمريكية عبر ولايات "قارة الأحلام التاريخية". وذلك من خلال تحديد درجة التفاوت في تكافؤ الفرص بين الأمريكيين في كل مدينة من مدن الولايات المتحدة الأمريكية، فيما يتعلق بالتعليم، والصحة، والعمل،...،إلخ...فقامت أولا: بوضع 10 درجات لتكافؤ الفرص. وثانيا: وقامت بوضع لون لكل درجة في شكل دائرة. يبدأ باللون البيض حيث الدرجة الثانية تأخذ لونا فاتحا يزداد "غمقا" مع التدرج إلى الدرجة العاشرة. وثالثا: تعني الدرجة الأولى ذات اللون الأبيض أن الفجوة تكاد تكون متضائلة. ومع تدرجة درجة اللون تزاد الفجوة حتى تصل إلى أقصاها مع الدرجة العاشرة.
وتشير الاطلالة الأولى للخريطة إلى أمرين ــ لا تخطئهما العين ــ هما: أولا: مدى انتشار الدوائر اللونية الغامقة، بدرجاتها، والتي تعني تزايد عدد المدن، ومن ثم عدد السكان، التي تعاني الفجوة الواسعة في الفرص أو التضييق على المساواة. ثانيا: تضاؤل الدوائر البيضاء والفاتحة والتي تعني فجوة أقل في الفرص المتاحة بين المواطنين...مع ملاحظة أن كثير من المدن التي تظهر فيها الدوائر البيضاء لا تعني بالمطلق توفر المساواة. وإنما فقط هي متجانسة عرقيا. ما قلل الفجوة ولكن لم يمنعها بين المتماثلين...إنها أمريكا الأخرى الباحثة عن المواطنة...ونتابع مستقبل أمريكا الأخرى في سنة الانتخابات...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern