المواطنة التامة

تعتبر أدبيات المواطنة "الثورة الفرنسية"، التي انطلقت في 1789 وبقيت متقدة إلى ما يزيد عن عقد من الزمان، نقطة تحول كبرى في التاريخ الإنساني...لماذا؟
تُجيب أدبيات المواطنة بما يلي: أولا: لأنها أسست "لمبدأ المواطنة" ونقلت الإنسانية من الحديث عنها والحلم بها(المواطنة الفكرة) إلى كونها فعلا حيا ممتدا ومستمرا مع مرور الوقت أو ما عبرنا عنه "بالمواطنة المستدامة".

ثانيا: أنها نقلت الأفراد من حالة كونهم "رعية تابعة" إلى الحالة "المواطنية" التي تعني الشراكة في إدارة شئون الدولة في مستوياتها المتعددة. وثالثا: تعني الحالة المواطنية أن المواطنين، على اختلافهم في الجسم الاجتماعي، قد أصبح لهم حقوقا متعددة وأدوارا فاعلة تعكس مدى تحقق المواطنة من جهة. ومدى تجسد الشراكة من جهة أخرى. رابعا: انتهاء زمن أشكال الحكم ما قبل حديثة؛ والتي تتسم بالقرابية، والإقطاعية، والاحتكارية،...،إلخ، وبدء البحث عن آليات للإدارة السياسية والاقتصادية والاجتماعية مؤسسية تعتمد على الكفاءة والتنظيم...ويؤكد أهمية ما سبق قراءة: أولا: الوقائع التاريخية البعد النضالي من أجل ممارسة المواطنة وتجسيدها: عدالة ومساواة على أرض الواقع، كذلك ثانيا: النص التاريخي التأسيسي المعروف "بإعلان حقوق الإنسان والمواطن"...إذن، كانت الثورة الفرنسية هي لحظة فارقة بين نموذجين عاشهما الإنسان/المواطن...أخذا في الاعتبار، أن النموذج الثاني لم يتحقق بالتمام في التو واللحظة بعد قيام الثورة الفرنسية. وإنما يمكن القول أنها أطلقته ليأخذ مساره التاريخي في السياق الأوروبي. ثم تنوعت المسارات في سياقات أخرى غير أوروبية(مختلفة التطور الاقتصادي/الاجتماعي) مع مرور الوقت والزمن. ما يؤكد أن المواطنة هي عملية تاريخية ممتدة ومتجددة لا سقف لها...وأن جوهرها واحد في كل زمان ومكان.
وتشير تجربة الثورة الفرنسية نفسها إلى أن معاصريها ظنوا أنهم بالإجراءات والنصوص وحدها يمكن الاستجابة لمطالب الناس/المواطنين. لذا حرص كاتب نص الإعلان الفرنسي على ضرورة أن تسرع دولة ما بعد الثورة الفرنسية على تحقيق دولة المواطنة الكاملة الأبعاد خاصة في بعديها الاقتصادي والاجتماعي. وعليه نصت الوثيقة بضرورة الأخذ ب "العدالة ذات السرعة المزدوجة" في تأمين توزيع الأعباء والمزايا الاجتماعية. ظنا منهم أن هكذا نص من شأنه أن يحقق، فورا، المواطنة بأبعادها: الاقتصادية/الاجتماعية، والسياسية/المدنية، والثقافية على قاعدتي العدالة للجميع والمساواة دون التمييز. ذلك أن الثورة الفرنسية، وبالرغم من دورها التاريخي التأسيسي، إلا أنها واجهت إعاقات بنيوية سياسية(في الداخل الفرنسي وخارجه)، وبنى اقتصادية وثقافية لها مصالحها وعلاقاتها وتفضيلاتها الاقتصادية والمالية تأبى أن تتنازل عنها وتصر على أن تبقي على امتيازاتها في دائرتها الصغيرة. ومن ثم تعددت المواجهات من قبل قوى الظلام الإقطاعية، والدينية للحيلولة دون الانتقال الفوري إلى النموذج "المواطني" الجديد والبقاء في ظل النموذج "الرعائي" القديم...ما صعب من تحقيق المواطنة التامة بالسرعة التي طالبت بها مواثيق الثورة الفرنسية الفارقة...وإن لم يمنعها ذلك أن يكون لها فضل التأسيس للمواطنة الفعل كما تؤصل أدبيات المواطنة...
والنتيجة أن المواطنة التامة “Full Citizenship”؛ لم تتحقق مرة واحدة. وإنما تحقق كل بعد من أبعادها على حدة وبالتعاقب...أي أن المواطنة سارت في مسار "خطي"؛ وذلك كما يلي:
• بداية كان الاهتمام بتحقيق المساواة أمام القانون أي المواطنة "المدنية" Civic Citizenship.
• ثم عني بالتمثيل السياسي في المجالس النيابية فعرفت المواطنة في بعدها السياسي Political Citizenship .
• و مع التطور الاجتماعي والطبقي استوجب الأمر توفير الضمانات الاجتماعية أي المواطنة في بعديها المركب الاجتماعي – الاقتصاديSocio- Economic Citizenship.
• و في الربع الأخير من القرن العشرين بدأ تنامي صعود الهويات الثقافية: الدينية والعرقية والجنسية بشكل غير مسبوق في تاريخ البشرية ،في هذا السياق طرح مفهوم المواطنة الثقافية Cultural Citizenship .
• ومع مطلع الألفية الجديدة انطلق الاهتمام بما أطلق عليه القيم المواطنية الإنسانية Human Citizenship...
ويلاحظ أن هذا الترتيب قد ارتبط ــ بالأساس ــ بأمرين حاكمين هما: الأول: موازين القوة في مرحلة زمنية وما تفرضه من أولويات. ثانيا: طبيعة النظام الاقتصادي السائد بما يتسم به من نمط انتاج وعلاقات...
فلقد أدت الثورة الفرنسية إلى إطلاق الحريات مع القوى الاجتماعية البازغة الرافضة للمجتمع الإقطاعي فكانت المواطنة المدنية فالسياسية التي تتيح التمثيل السياسي لشرائح اجتماعية من خارج الأرستقراطية التقليدية التاريخية من أن يكون لها حضورا سياسيا. ولكن مع الثورة الصناعية بدأت مرحلة جديدة للجسم الاجتماعي. حيث تشكلت طبقة عمالية ذات مهارات فنية متقدمة. كما تقدم العلم وتنوعت حقول المعرفة. ومن ثم اتسع قطاع التعليم لمزيد من المقبلين على التعليم. وبرزت المدينة كحاضن تاريخي وحضاري للصناعة والتعليم. وبالأخير تعقدت الحياة وتفاصيلها. وكلها أمور فتحت آفاقا حول النضال والحديث عن المواطنة الاقتصادية والاجتماعية: عقود العمل، ونظم التأمين الاجتماعية والصحية، والحماية من المخاطر، وحماية المواطنين من الاحتكار،...،إلخ...وبدأ الالتفات أن هذه الانجازات التي حققها المواطنون عبر الأزمنة لابد من أن تتوفر للجميع على اختلافاتهم الثقافية فظهر الحديث عن المواطنة الثقافية والتي تطورت إلى المواطنة الإنسانية...
تعددت نظريات المواطنة بحسب كل مرحلة...كما تنوعت المقاربة السياسية...بيد أن الجميع بات متفقا اليوم على أن التشكل "الخطي" للمواطنة ــ أي تحقيق بعد من أبعاد المواطنة يعقبه بعد آخر بحسب الخبرة التاريخية الأوروبية ــ لم يعد مناسبا. وإنما لابد من تحقيق المواطنة "التامة"ــ أي المواطنة بكامل أبعادها ــ في وقت واحد. وذلك وفق رؤى وسياسات وممارسات مركبة...بلغة أخرى، المواطنة "التامة" هي حصيلة التفاعل بين فعل مواطني مستدام وتنمية مستدامة...كيف؟... نتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern