المواطنة المتجددة..الفكرة..المبدأ..الفعل المستدام

تعد "المواطنة"؛ من أكثر المفردات تداولا في النصف قرن الأخير...ليس فقط في المحافل الأكاديمية ومساحات النقاش العام. وإنما أيضا في تجلياتها العملية على أرض الواقع...ومن ثم ابتكار مجالات حركة متجددة لممارستها...ف
في البدء، عرفنا أولا: المواطنة "الفكرة". فالمواطنة، ثانيا: "الفعل المتقطع". ثم ثالثا: "المواطنة المبدأ"...حتى وصلنا إلى رابعا: المواطنة "كفعل مستدام"...


فلقد نجح الإنسان عبر تاريخه في أن يكتسب شرعية المواطنة من خلال الحديث النظري عنها وعن ملامحها، وعن كنه المواطن وممارساته. نعم نظريا من خلال ــ كما ذكرنا ــ الفكر الفلسفي/السياسي القديم. وتحديدا فكر السياسي للفلاسفة اليونانيين القدامى مثل أفلاطون وأرسطو...وهو ما يمكن وصفه "بالمواطنة الفكرة"...
ولكن مع مرور الوقت ناضل الإنسان من أجل أن يجعلها حقيقة حية من خلال نضالاته المتعاقبة والتي كانت فعلا تاريخيا متقطعا. يفور حينا ويستكين حينا. يتقدم خطوة في طريق المواطنة تارة. ويتعثر تارة أخرى...وهكذا. ولكن مع كل محطة نجاح نضالية كان يقطع خطوة للأمام في طريق تبلور المواطنة بأبعادها. وفي هذا المقام يمكن دراسة مسارات "مواطنية" عديدة سواء في الغرب او الشرق مع مراعاة فرق التطور الاجتماعي والسياسي. كذلك مراعاة ما إذا كانت هذه المسارات تحت الهيمنة الاستعمارية أو تمارسها.
ومع الاستقرار النسبي التي جاءت به معاهدة "وستفاليا" والتي وقعت بين دول أوروبا المتحاربة عام 1648 لإنهاء ما يُعرف بحرب الثلاثين سنة. تبلورت "الدولة الوطنية" ذات السيادة والشرعية الدستورية والمواطنة...وما أن نجح الإنسان الكوني في اكتساب شرعية المواطنة، ومن ثم "دسترة" هذه الشرعية في الدولة الحديثة عند تأسيسها بفعل المواطنة المتقطعة. بات "مبدأ" المواطنة حقيقة تاريخية فكرية وعملية...ويبدو لي أن العقود الأخيرة وتحديدا منذ ثورة الطلبة في 1968، مرورا بالتحولات في أوروبا الشرقية، ووصولا إلى النزوع "المواطني" الذي نشهده في كثير من المواضع في العالم. باتت هناك حالة مواطنية ممتدة تبغي أن تُثبْت حركية جديدة يمكن أن نطلق عليها: "المواطنة: الفعل الممتد"؛ أو "المستدام"...تجعل من المواطنة فعلا متجددا...
وعليه، لا يعود الفرد مجرد مواطنا مقيما Denizen،وإنما يكون مواطنا فاعلا “Active Citizen”؛ وحاضرا في كل الأبنية الدولتية والمجتمعية. ونشطا وإيجابيا في كل دائرة من دوائر حركته الأربع: الشخصية Personal، والخاصة Private، والسياسية Political، والعامة Public. أو ما يمكن أن نطلق عليه: ال “4Ps.”.. حيث ينتقل المواطن من "الخاص الضيق" إلى "العام الرحب"، بغير تناقض بين الخاص و العام من جهة، و بإبراز أفضل ما لديه في كل دائرة منة دوائر حركته الأربع...إنها الحركية التي تعكس فعلا ممتدا باتت تتصف به المواطنة في وقتنا الراهن...إنها الحركية التي وصفناها "بالنزعة المواطنية" أو "المواطنيزم" “Citizenism”...
في هذا السياق، نطرح تعريفا للمواطنة يتسق مع رؤيتنا لمسيرته التاريخية وتحولاته من: "فكرة"، إلى "فعل تاريخي متقطع"، إلى "مبدأ" إلى "فعل مستدام"؛ وذلك كما يلي:
المواطنة هي تعبير عن " حركة "الإنسان اليومية: مشاركا ومناضلا...من أجل: اكتساب حقوقه بأبعادها " المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية" و"الإنسانية الجديدة...على قاعدة المساواة مع الآخرين من دون تمييز لأي سبب مثل: اللون/الجنس/العرق/الدين/المذهب/المكانة/الثروة/الجهة/ الجيل/اللغة/...؛ واندماج هذا المواطن في" العملية الإنتاجية" ومن ثم "المجتمعية"...بما يتيح له تقاسم الموارد في إطار الوطن الواحد الذي يعيش فيه مع الآخرين.
ونشير هنا إلى أمرين هما: أولا: أنني أضفت الحقوق الإنسانية الجديدة، وأقصد بها منظومة الحقوق التي بدأت تتشكل مع تنامي الحركات المجتمعية القاعدية والباحثة عن "الكرامة الإنسانية" في ظل مجتمع "معولم" تسوده رأسمالية شرسة وشموليات جامدة...ومن هذه الحقوق نذكر ما يلي: الحق في الحياة الكريمة، الحق في بيئة نظيفة، الحق في مدينة إنسانية وخضراء، والحق في التمدن، وحق الانشغال بالشأن العام، والحقوق الرقمية، والحق في المعرفة، والحق في التَفَنن، والحق في السعادة...وظني أن أهداف التنمية المستدامة قد جاءت لتعبر بشكل مؤسسي عن مطالب الحركات المواطنية الجديدة...وثانيا: ذكرنا ــ في تعريفنا ــ على أهمية الاقتصاد الانتاجي في ممارسة المواطنة. وذلك انطلاقا أن نوع الاقتصاد يتحكم إلى حد كبير في طبيعة المواطنة المستخلصة. ففي ظل اقتصاد انتاجي تتسم الدولة ــ نسبيا ــ بالحداثة، والولائية الدستورية والقانونية، والعقلنة، والمؤسسية، والإدارة، والتنظيم، والعصرنة،...،إلخ. ومن ثم تتبلور مواطنة هي تجسيد للحالة الاقتصادية الانتاجية...والعكس صحيح...
وفي المجمل تتبلور المواطنة من محصلة التفاعل بين العناصر المادية والمعنوية المكونة لها والتي يتم التحرك وفقها. وذلك كما يلي: أولا المادية: العدالة، والمساواة على كل الأصعدة، والحقوق بأنواعها،...،إلخ...وثانيا المعنوية: الارتباط بالأرض، والوطنية، والهوية، والانتماء،...،إلخ. فمع كل خطوة من أجل تحسين أوضاع العدالة والمساواة يرتبط المواطن أكثر فأكثر بالأرض وتتجلى هويته ويتشكل انتماؤه وتتبلور وطنيته...ومن ثم تصبح "المواطنة: فعلا مستداما" ينتج من جدل وتفاعل بعدي المواطنة: المادية والمعنوية. ومن هنا تتحسن أوضاع المواطن في إطار الشخصية القومية وابداعاتها في شتى المجالات...
والخلاصة، فإن المواطنة بهذا المعنى هي حالة إنسانية عامة يشترك في ــ ضرورة ــ ممارستها كل سكان الكوكب على اختلافهم. وتختلف درجة المواطنة المتبلورة، من مجتمع لآخر، حسب السياق المجتمعي وطبيعته ودرجة تقدمه. ووصفها بأنها فكرة أو خبرة وافدة أو مستجلبة يكون كلاما مغرضا أو جاهلا. فالإنسانية تشترك في شوقها من أجل بلوغ المواطنة في الغرب والشرق وفي الشمال والجنوب على السواء. وما الاختلاف في تطورها بيننا وبين الآخرين إلا اختلاف في درجة التطور المجتمعي...نتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern