المواطنة: محطتان مهمتان..وبعد

محطتان مهمتان غيرا منهج مقاربتي للمواطنة...المحطة الأولى كانت مطلع التسعينيات؛ والمحطة الثانية في عام 2006...
ففي المحطة الأولى؛ وقع في يدي كتاب "توماس هامفري مارشال"(1893 ــ 1981)، المعنون: "المواطنة والطبقة والتغيير"(1950)؛ حيث درس فعل المواطنة في إطار موازين القوى بين طبقات الجسم الاجتماعي بين نضالات الطبقات والشرائح

الأضعف من أجل اكتساب الحقوق والإعاقات الاجتماعية والمؤسسية التي تواجهها. وكيف يمكن في إطار دولة الرفاه أن تتحقق المواطنة بأبعادها: الاجتماعية، والمدنية، والسياسية. ما يضمن تحقيق المساواة للجميع بالرغم من الاختلافات الطبقية وأية اختلافات أخرى في سياق الاقتصاد الانتاجي بالطبع. وهو ما عبرنا عنه ــ آنذاك في باب دوري حمل عنوان "نحو المواطنة" بمجلة اليسار الشهرية ــ "المواطنة حق لمن يملك ولا يملك" وقمنا مبكرا بتعريف القارئ العربي "بمارشال"...وهي عبارة، أظنها، حررت المفهوم من: أولا: اقتصاره ــ فقط ــ على الشأن الديني أو الاختلاف بين الأغيار الدينيين. أو ثانيا: تعريفه ــ حصريا ــ بأنه يعني الانتماء أو الهوية...وثالثا: تنقية أي محاولات لمقاربة المواطنة دون الرجوع للأصول النظرية والخلفيات الفكرية للخبرات الميدانية والمجتمعية المختلفة الكوكبية(إذا ما استعرنا تعبير أستاذنا إسماعيل صبري عبد الله) التي تزخر بها أدبيات المواطنة الأصيلة.
كما أتاح هذا الفتح المعرفي إعادة النظر في توسيع زاوية الرؤية للمواطنة بأنها "حركة الإنسان النضالية والحياتية من أجل أن يكون مواطنا"...وأن المواطنة ليست "حالة ساكنة" وإنما حالة "حية وفاعلة"...لذا باتت الأدبيات تفرق بين "المواطن المقيم" “Denizen”؛ والمواطن الفاعل" والمشارك في بناء وطنه...
ونتج عن اجتهاد "مارشال" تأسيس حقل معرفي مستقل عنوانه "المواطنة" وله منظرون خرجوا من الاجتهاد التأسيسي "لمارشال" مثل: "برايان تيرنر، وإنجين إسين، ورونالد باينر،...،إلخ. ومع التقدم في شتى المجالات تنوعت إبداعات المواطنة.
ولعل المحطة الثانية؛ التي أشرت إليها في مستهل المقال، تجربة تؤكد كيف تم تناول المواطنة وفق الاجتهادات المعتبرة المتجددة للمواطنة. ففي عام 2005 دار نقاش سياسي ومدني وأكاديمي في المملكة المتحدة حول "مستقبل المواطنة في العقدين القادمين"، أي في الفترة من 2006 إلى 2026. (وقد عرضنا خلاصة هذا المشروع في مقال لنا بالأهرام الغراء آنذاك). وللتذكير ــ غير المُخل ــ نشير إلى أن النقاشات خلصت إلى وضع مشروع لدراسة اتجاهات التعبير المحتملة والمتوقعة عن المواطنة على مدى عقدين.
انطلق البحث من سؤالين أساسيين هما: الأول كيف سيتم التعبير عن المواطنة في المملكة المتحدة علي مدي العشرين عاما القادمة (2006-2026) من حيث الأفكار المجتمعية عنها، وممارسة الناس لها ؟،الثاني ما الذي سيترتب على ما سبق من تغيرات محتملة في تحديد السياسات المطلوبة ؟ ويؤكد التقرير على أنه ينطلق من تعريف للمواطنة ينظر إليها باعتبارها دائمة التغير، أي أن المواطنة ليست مفهوما ساكنا أو قيمة معنوية تتأسس مرة واحدة وإلى الأبد أو تتحقق بقرار، وإنما هي ممارسة حية للناس على أرض الواقع، فبقدر ما يتحركون نحو تحقيق الأفضل واكتساب الحقوق بمقدار ما تكون هناك مواطنة ومن ثم تتطور، والعكس صحيح. كما يأخذ التقرير ببعدين للمواطنة، البعد الأول هو " المواطنة الأفقية"Horizontal Citizenship:ويقصد بها العلاقة بين المواطن وشريكه المواطن والتي تتحقق من خلال تبني القيم المشتركة والعمل معا في إطار المجتمع المدني وعليه يحدث التكامل بين الجميع بغض النظر عن الاختلاف، البعد الثاني هو " المواطنة الرأسية"Vertical Citizenship والتي تعبر عن العلاقة المؤسسية بين المواطنين والدولة من خلال النظام العام والمؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية وما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات وخدمات وعقوبات وحماية و أمن،...
في ضوء عملية غاية في التعقيد، تم تحديد 50 محددا سوف تؤثر على المواطنة في المملكة المتحدة على مدى العشرين عاما التالية، من هذه المحددات –على سبيل المثال لا الحصر- ما يلي: تزايد اللامساواة الاجتماعية، تنامي الاستقطاب والانقسام الاجتماعي، التوقعات المتزايدة لتوفير الخدمات الأساسية، الهويات المتحولة ومستقبل الهوية البريطانية "Britishness "،عولمة الأسواق، الأداء الاقتصادي، التحول من المسئولية الاجتماعية إلى المسئولية الذاتية، التغير الاجتماعي المطرد، ثقافة الاستهلاك، انخفاض الثقة بالمؤسسات، الحركات الراديكالية السياسية، والإرهاب،...الخ.
في هذا السياق، كان يتم تفكيك كل عنصر إلى الكثير من التفاصيل بتشابكاتها المعقدة. ومن ثم دراسة حركية المواطنة المتوقعة إيجابا وسلبا، صعودا وهبوطا، دعما واشتباكا،...،إلخ. وبتطبيق منهج السيناريوهات المستقبلية نتجت أربعة سيناريوهات، ومن خلال تفهم وجهة نظر كل من الحكومة والمواطنين في الاتجاهات التي يجب أن يؤخذ بها(في ضوء هذه السيناريوهات) لتعظيم المواطنة التي تحقق الاندماج والمساواة ومن ثم المواطنة ببعديها الأفقي والرأسي(كما أسلفنا) التي جوهرها مواطن فاعل ونشط،
الخلاصة، يعد اجتهاد "مارشال"، ومنظرو المواطنة ممن جاءوا بعده، نقطة تحول تاريخية. وكذلك كيفية التعاطي معها عمليا عبر السياسات الحكومية والجهود المدنية في أوروبا نموذجا لابد من فهمه ودراسته...ومن ثم ضرورة استيعاب حصيلة هذين المسارين بمنهجية جدلية...وعليه حرصت على تطوير مقاربتي للمواطنة في كتابي: "المواطنة والهوية: جدل النضال والإبداع"؛ في محاولة لإعادة تعريفها تعريفا جديدا في ضوء سياقنا العربي...وهو ما سنفرد له مقالا منفردا الأسبوع القادم...كما نعلق لاحقا على الورقة البحثية المعنونة: "حتى لا يتخلف أحد عن الركب: نحو المواطنة الشاملة في البلدان العربية"، الصادرة في إطار تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2019. ومدى اقتراب الورقة من مثيلاتها من الأوراق كالتي تم إطلاقها في المملكة المتحدة(2006) وغيرها من الدول بعد ذلك، خاصة وأن التقرير ربط بين المواطنة وأهداف التنمية المستدامة ومدى تحقيقها مع قدوم العام 2030...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern