الصفقة الخضراء الجديدة

شهد عام 2019، صعودا لافتا "للخضر"، من المنتظمين في أحزاب والمنخرطين في حركات في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وتؤكد انتخابات البرلمان الأوروبي من جهة، وانتخابات العديد من الدول الأوروبية من جهة ثانية، والفاعلية المجتمعية المواطنية لحركات الخضر في أمريكا وأكثر من مكان على هذا الصعود خاصة التي واكبت قمة المناخ التي عقدت في نيويورك في 24 سبتمبر الماضي...


ولتأكيد ما سبق، نُذكر بما كتبناه حول البرلمان الأوروبي (751 مقعدا) في برلمان 2014، الذي كان نصيب الخضر فيه خمسين مقعدا. ارتفعت أثناء الدورة البرلمانية إلى 52 مقعدا. إلا أن النتائج: المفاجأة، التي نتجت عن الاقتراع الأوروبي الذي شهد حراكا "مواطنيا" قاعديا وشبابيا للمشاركة، غير مسبوق منذ 20 عاما(بنسبة تقترب من 55%)، قد أوصل "الخضر" إلى 69 مقعدا. أي أنهم حصدوا 17 مقعدا اضافيا مرة واحدة على المستوى القارة الأوروبية". وقد توالت الانتصارات في عدة انتخابات برلمانية اوروبية. ما اعتبره المراقبون: "نقطة تحول تاريخية" في مسيرة الديمقراطية...لماذا؟
لأن هذا المد "الأخضر"؛ لم يكن إلا معركة واضحة وعلى المكشوف مع "رأسمالية الكوارث" التي لم تأت إلا بكل ما هو ضار بالإنسانية. والأهم هو تأسيس ما يمكن أن نطلق عليه "الزمن الأخضر"؛ إن جاز التعبير.
وفي 2019، صدر كتابان حظيا بانتشار وتأثير كبيرين في مجال التأكيد على أن 2020 ستكون بدء حقبة الانطلاق نحو انقاذ الإنسانية ــ تماما ــ من كوارث الرأسمالية مع مطلع الحقبة القادمة أي في 2030. الكتاب الأول كان عنوانه: "الصفقة الجديدة الخضراء"(250 صفحة). أما الكتاب الثاني فعنوانه: "القضية المشتعلة: الصفقة الخضراء الجديدة "(260 صفحة).
وما زاد من أثر وانتشار الكتابين في الكثير من الدوائر هو أن مؤلفيها هما: "جيريمي ريفكين"؛ أحد أهم المفكرين الاجتماعيين الذي يرأس "مؤسسة الاتجاهات الاقتصادية" في واشنطن. والذي ألف كتبا مؤثرة منها: "نهاية العمل"، و"الثورة الصناعية الثالثة"، و"التقنية الحيوية"، و"عصر الوفرة". وبالنسبة للكتاب الثاني فقد ألفته الصحفية المعروفة المثيرة دوما للقضايا الإشكالية "ناعومي كلاين" صاحبة مجلد "عقيدة الصدمة"، و "لا لم تعد كافية"، و"هذا سوف يغير كل شيء".
على الرغم من اختلاف التوجه الفكري الذي يحكم المؤلفان. حيث "كلاين تقارب القضية من منظور يساري. و "ريفكين" يعالج هذا الملف منطلقا من أرضية رأسمالية. إلا أنهما يتفقان على أن العالم يواجه" خطرا" كوكبيا ممتدا. بفعل ما بات يعرف "بالاحتباس الحراري" وتداعياته الضارة على حياة مواطني كوكب الأرض وعلى البيئة. ما يهدد بقاء الكوكب ومواطنيه. إلا أن ما يقدمانه من تحليل في الكتابين يتجاوز الرصد التقني لهذه الأضرار إلى أسباب ذلك. وبالأخير، طرحا ضرورة اعتماد خيارا اقتصاديا جديدا بديلا لما هو قائم أطلقوا عليه: "الصفقة الجديدة الخضراء" “Green New Deal”...وسوف نلقي الضوء في مقال اليوم على طرح "جيريمي ريفكين"، ونعرض لرؤية "ناعومي كلاين" في مقالنا الأسبوع القادم بإذن الله...
يستهل "ريفكين" كتابه بأننا نعاني حالة "طوارئ" عالمية. فالخيار الاقتصادي الذي انحازت إليه الرأسمالية الكوكبية، منذ 1979 وإلى الآن، قد أدى إلى وضع كارثي. فلقد ارتفعت درجة حرارة الجو عن معدلاتها الطبيعية التي كانت سائدة في المرحلة ما قبل الصناعية بفعل الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية التي اعتمدت على الموارد الطبيعية كمصادر للطاقة والتي تعد رخيصة. إلا أنه مع مرور الزمن تبين كيف أن الاعتماد المتواصل عليها لرخصها لتعظيم الربح للقلة الثروية. ما دفع إلى استنزاف الطبيعة بشتى الطرق حتى لو أدى الأمر إلى الحروب. وبالنتيجة، أصيبت سلامة الكوكب في مقتل. وقد تمثل ذلك في: التصحر، واحتراق الغابات، وارتفاع مستوى المياه عن الحدود الطبيعية ما أدى إلى السيول والفيضانات، تزايد نسبة الانبعاثات الغازية الضارة التي تهدد حياة الإنسان والكائنات الطبيعة المتنوعة. جرى كل ما سبق في إطار حصيلة الثورتين الصناعيتين الثانية(التي انطلقت في القرن ال19)والثالثة(التي انطلقت في القرن ال20). صحيح أن مصادر الطاقة قد تطورت، من البخار إلى الكهرباء وغيرها من مصادر، إلى أن الرأسمالية أبقت على كل ما هو رخيص من وسائل.
ويدعو "ريفكين"، ونحن في منتصف الثورة الصناعية الثالثة التي تقوم على "الرقمنة" لابد من التحرر من النموذج الصناعي القديم. والتوجه نحو تبني نموذجا صناعيا جديدا. ويستعير تعبير "الصفقة الجديدة" الذي أطلقه "كينز" لعلاج أزمة الرأسمالية في ثلاثينيات القرن الماضي. شريطة أن تكون "الصفقة الجديدة" ذات لون ’’أخضر‘‘...
في هذا السياق، يطرح "ريفكين" تصوره "لاندماج تقنية الانترنت مع تقنيات الطاقة المتجددة مثل طاقتي: الرياح والشمس. إضافة للطاقة الكهربائية". والبدء فورا في وضع خطة جريئة لإنهاء "حضارة الوقود الأحفوري" خلال أقل من عقد من الزمن. حيث مع بدء 2030 يمكن أن نستبدل البنية التحتية المادية للموارد والثروات الطبيعية بأخرى تعتمد الطاقة البديلة وتحافظ على سلامة وصحة كل من البيئة والإنسان. وفي نفس الوقت تعيد الرشد للرأسمالية من أجل تحقيق قدرا من الإنصاف للمتضررين من "رأسمالية الكوارث"...غنها محاولة لإعادة إحياء لمواطني الكوكب من رماد خيار فاسد ساد على مدى عقود...وذلك بزيادة الوعي بالقضية ودفع الأحزاب والحركات ــ وبالذات الشبابية ــ لتبني جدول أعمال الصفقة الجديدة الخضراء. وفرضه على واضعي السياسات وخطط التنمية المستدامة الدولية والحكومية. إضافة إلى وضعه في مقدمة اهتمام الدوائر الأكاديمية والسياسية والاقتصادية في شتى بقاع العالم...وما الصعود الأخضر، في أوروبا، الذي قدمنا به مقالنا إلا مظهر من مظاهر الضغط في اتجاه تبني "الصفقة الجديدة الخضراء"...ونتابع التفصيل مع كتاب كلاين"...

 


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern