ذاكرة 2019 الثقافية: شكسبير وكافكا وأورويل

أي زائر للمكتبات الأوروبية سوف يلحظ بسهولة مدى الحرص على توفير إبداعات المبدعين من كل الأجيال في متناول القراء في أي وقت. فلا تخلو مكتبة من أرفف تحمل الأعمال الكاملة لهؤلاء المبدعين...الأهم هو الحرص الدائم من قبل النقاد وما يمكن أن نطلق عليهم المؤرخين والباحثين الثقافيين على إصدار كتب تتناول إبداعات هؤلاء المبدعين، وإعادة تقديمهم للأجيال الجديدة. فيما يعد عملية ثقافية مدروسة ومنهجية تحفظ أعمالهم وحياتهم وأثرهم في

التاريخ الإنساني. ما يضمن الإبقاء على الذاكرة الإبداعية حية ومتجددة دوما. لا مانع من إعمال النقد والمراجعة لأنه ليس الهدف هو تقديس التاريخ ورموزه الإبداعية بقدر تثمين اضافاتهم الإبداعية وتقديرهم.
وفي عام 2019، صدرت ثلاثة كتب بديعة وممتعة تتناول كل من: أولا: المسرحي العظيم وليم شكسبير (1564 ــ 1616) من خلال كتاب كتبته أستاذة متخصصة في ما يعرف بدراسات شكسبير عنوانه: "هذا هو شكسبير"(300صفحة ـ من إصدار دار النشر الشهيرة بنجوين). وثانيا: الروائي "فرانز كافكا" الذي ولد في براغ عام1883 ورحل عام 1924. الذي أصدر أحد النقاد كتابا يتناوله بعنوان: "محاكمة كافكا الأخيرة". حيث استعار اسم أهم أعمال "كافكا": "المحاكمة" في محاولة جديدة لإلقاء الضوء على كافكا. وثالثا: الإنجليزي "جورج أورويل" (1903 ــ 1950) الذي تناوله الباحث والإذاعي والكاتب الصحفي الثقافي لدورية الجارديان الأسبوعية "دوريان لينسكي" في مجلد معنون: "وزارة الحقيقة"(وهي ترجمة مباشرة للكتاب وأفضل في خدمة الحقيقة عليها. ويقع المجلد في ما يقرب من 450 صفحة).
وتقدم المقاربات الثلاث لهذه الكتب ثلاثة مناهج مختلفة لتناول أعمال كبار المبدعين. فمقاربة شكسبير أقرب إلى "الدليل" لقراءة كل عمل من أعمال شكسبير على حدة. حيث تقسم الكاتبة كتابها إلى عشرين فصلا. وتتناول في كل فصل من هذه الفصول عملا من أعمال شكسبير المسرحية الشهيرة وغير الشهيرة مثل: "ريتشارد الثالث"، وروميو وجولييت"، وتاجر البندقية"، و"اثنا عشر ليلة"، و"هاملت"، و"الملك لير"، "قصة خريف"، و"كوريولانوس"،...، وغيرهم. أما مقاربة "كافكا" فكانت أقرب إلى تتبع أهم محطات حياته فيما يشبه المحاكمة التي رغم تحيزها إلا أنها لم تستطع أن تصدر حكما ضده في المجمل. بينما المقاربة التي اتبعها "لينسكي" في تناول "أورويل" فهي أقرب إلى الدراسة التاريخية الثقافية الشاملة والتي تحمل مقارنات مع الحاضر وإسقاطات عليه في آن واحد. وتؤصل للقيم الإيجابية التي وردت في إبداع "أورويل" المقاوم للشمولية والتي تحاول بعض القوى الدولية إحيائها في وقتنا الراهن. وذلك بالاستناد إلى روايتيه الأشهر في هذا الإطار:"1984" و"مزرعة الحيوانات"...وألفت النظر إلى أن ما يقوم به "لينسكي" في هذا المقام يعد جليلا للغاية. فلقد قرأت له مجلدا معتبرا (إصدار 2012) مطلع العام المنصرم وعرضت له ــ آنذاك ــ عنوانه:"33 ثورة في دقيقة" “33 Revolutions Per Minute”؛(800 صفحة)، تناول الكتاب ما وصفه "بتاريخ الأغاني الاحتجاجية" في الغرب: الأمريكي والأوروبي، في الفترة من 1939 إلى 2008، وكانت فاتحة لتيار غنائي عينه على آمال وألام الناس وبخاصة المهمشين منهم. وكيف أعانتهم على إحداث تحولات مجتمعية حقيقية.
إن ما يجمع الأعمال التأريخية الثقافية، التي نحن بصددها، على اختلاف مناهجها، هو إنها تتعاطى مع نصوص إبداعية عظيمة لا تقترن، فقط ، بأزمنة كتابتها وما حملته من قيم، وافكار. وما عبرت عنه من أحوال هذه الأزمنة وأوضاعها السياسية والاقتصادية، ونقاشاتها، وطبيعة علاقاتها الاجتماعية. وإنما لأن نصوصها تتضمن قدرة فذة على أن تظل حية وخالدة من جهة. ومن جهة أخرى، أن تعين على فهم الزمن الراهن وتكون بوصلة للمستقبل أيضا...لذا حُق لكل من "شكسبير" و "كافكا" و "أورويل" أن توصف أعمالهم الإبداعية بأنها: "نصوص تتسم بالأصالة والرؤيوية"...الأصالة؛ وتعني قدرة مبدعيها على أن يبدعوا نصوصا تحمل أفكارا مبتكرة وخلاقة...والرؤيوية"؛ وتعني قدرتها على التأسيس لقيم تخاطب الظرف الإنساني في أزمنة متعددة. أو بلغة أخرى، نصوص عابرة للزمن.
وأظن، أن الكتب الثلاثة الصادرة في العام المنصرم تؤكد بأن الأعمال الإبداعية الحقيقية ليس لها تاريخ صلاحية. وأنها من الثراء ما يجعلها ملهمة للكثيرين من المبدعين اللاحقين. كما أنها تصلح للاستدعاء في تفسير إشكاليات الحاضر. كما تصبح، في مستوى من المستويات وفي لحظات تاريخية لاحقة، قادرة على تقديم رؤية للتاريخ الإنساني، وتفسير للخيارات الإنسانية الفردية المتعددة، وللسياقات المجتمعية المختلفة.
وفي هذا الإطار، تأتي أولا: أعمال "شكسبير" كتجسيد للنماذج البشرية المتنوعة، ومصائرها وأقدارها. كما تأتي ثانيا: أعمال "كافكا": الأدبية، والرسائل، واليوميات ــ بالرغم من محاولات التشويه المتعمد ذات الطابع الديني/السياسي ــ لتكون دالة على فظائع الرأسمالية: الاقتصاد، والمؤسسات، مطلع القرن العشرين. وكيف كان يحث على التحرر من تداعيات كل ما سبق من ظلم، واغتراب، وإقصاء، وتحكم، ونهب، وتسلط، ولا مساواة،..،إلخ...وهو ما يتجلى في أعماله: "مستوطنة العقاب"، و"الحصن"، و"أمريكا"، و"القصر"، و"التحول"،...،إلخ. ويتبين، لاحقا، كيف أن له "عميق الأثر" على كثير من الأدباء ممن جاءوا بعده.(بحسب ما جاء في دراسة للناقد الأدبي رونالد جراي المعنونة: "فرانز كافكا ـ ترجمة نسيم مجلي وصدرت عن المشروع القومي للترجمة في العام 2000). وأخيرا: اعتبار "أورويل" السابق في رصد وتوقع مساوئ الشمولية وأشكالها الراهنة ــ آنذاك ــ والمحتملة في المستقبل...لذا يعتبر "لينسكي" أعمال "أورويل" ــ وبخاصة روايته 1984 ــ نبؤة مبكرة لما يمارسه "ترامب من انتهاك متزايد الحقيقة"...
متعة حقيقية، ولاشك، إعادة قراءة النصوص الأدبية لكبار المبدعين وسيرهم الحياتية التي تحمل زخما إنسانيا كبيرا...وفهم تقنيات الحفاظ على الذاكرة الإبداعية...

 


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern