اليورو ..الايقين الاقتصادي

لعل من أهم ما نجح فيه العالم الكبير والحاصل على نوبل في الاقتصاد(2001) "جوزيف استيجليتز" هو تفكيكه لأحد أهم "التابوهات"(المقدسات)، الوهمية، التي عاشتها البشرية منذ 1979، باعتباره الحل السحري لمستقبل الكوكب ولرفاه البشر. هذا التابو" هو النيوليبرالية أو "اقتصاد السوق"...
فلقد عشنا عقودا في وهم أشاعه "أصوليو السوق"، بحسب "استيجليتز"، بنجاعة هذا النموذج. ولكن، ها نحن الآن وبعد نصف قرن، تقريبا،

يمكن القول أننا لم نحصد إلا: أولا: "لا مساواة"، غير مسبوقة، تاريخيا بين الأغنياء والفقراء. ثانيا: أزمات اقتصادية عالمية متعاقبة، ممتدة منذ الثمانينيات من القرن الماضي، لم تستثن أي دولة من دول العالم. وفي هذا السياق، لم ينج النموذج الاقتصادي التكاملي لأوروبا الموحدة، والذي قادته الدول الأفضل حالا اقتصاديا في العالم، من الفشل. والأهم أنه أكد على أمرين هما: الأول: ضرورة المراجعة الجذرية لأطروحة الليبرالية الجديدة ووعودها التي لم تتحقق قط. الثاني: فشل كل الإصلاحات التي تتم من داخل هذه الأطروحة لمواجهة إخفاقاتها المتتالية...وفي هذا المقام يقول استيجليتز": "إن إزالة واحدة من التشوهات، في ظل استمرار وجود التشوهات الأخرى، قد تجعل الاقتصاد أسوأ حالا". ولعل ما آلت إليه تجربة "اليورو" أو العملة الموحدة من أزمات داخلية أوروبية لم تستثن دولة من دول أوروبا المندمجة معا. ولكن الحل لا يتم بإجراءات علاجية تقنية/فنية، تعالج أعراض ما يطرأ من خلل. وإنما بمواجهة الداء.
فالثابت أن وحدة أوروبا الاقتصادية (وعملتها الواحدة) قد قامت بشكل: قسري، وفوقي. فلم يكن المسرح الاقتصادي معدا لاستيعاب دولا مختلفة في بناها الاقتصادية. كما أن إدارة دفة الاقتصاد الأوروبي الموحد قد تركت للماليين والمصرفيين. وفي هذا الإطار، يلفت "استيجليتز" النظر إلى أن "تصميم البرامج الإنقاذية، مثل التي قدمت لليونان وغيرها من البلدان المأزومة الأخرى، لم تشارك فيها وزارات العمل" والنقابات المختلفة. بما يضمن أن تعبر عن آراء العاملين ونوعية العقود المطلوبة في هكذا ظروف...كما لم تخضع لحوارات معمقة من قبل السياسيين والقوى المدنية (الأحزاب والحركات المدنية) بما يوفر تعميق النقاشات من زوايا متنوعة...ما أدى في النهاية إلى نوع من "اللايقين الاقتصادي" “Economic Uncertainty”؛ بحسب كتاب عنوانه: "شعبوية، قومية، واللايقين الاقتصادي"(2019) صدر في سلسلة مرجعية، في غاية الأهمية، عنوانها: "أوروبا في أزمة". حيث أحال ما "يفور" في أوروبا من "حراكات" قاعدية إلى الأزمة البنيوية في الاقتصاد الأوروبي الاندماجي...ويؤكد "استيجليتز" على أن ألمانيا التي تقدم نفسها باعتبارها قصة نجاح اقتصادي على الآخرين "احتذاؤه"، إنما يعد غير حقيقي و"أقرب للفشل"...وبالنتيجة اجتاحت دول أوروبا ــ الغنية والفقيرة ــ موجة تغييرات جذرية في تركيبتها السياسية المتعارف عليها منذ الحرب العالمية الثانية. تغيرات هي أقرب "للزلزال" وهو الوصف الذي شاع في الكثير من التعليقات على ما جرى ويجري في بلدان أوروبا من خلال الانتخابات الرئاسية والبرلمانية أو في الشارع من خلال ما دأبت على وصفه "بالحركات المواطنية"...ويتساءل "استيجليتز" لكن هل يتم إلغاء المشروع الأوروبي الوحدوي؟
يجيب "استيجليتز" في كتابه "اليورو: كيف تهدد العملة الموحدة مستقبل أوروبا"،(الذي قام بترجمته الاقتصادي البارز الأستاذ مجدي صبحي في جزئين وصدرا الشهرين الماضيين من خلال سلسلة عالم المعرفة)؛ بأنه "ليس في مصلحة أوروبا ــ ولا في مصلحة العالم ــ أن يكون هناك بلدا في المحيط الأوروبي ينفر منه جيرانه، خاصة الآن، حيث يعد عدم الاستقرار ’’الجيو ـ سياسي‘‘ واضحا بالفعل. فالشرق الأوسط المجاور في حالة اضطراب، والغرب يحاول احتواء روسيا الجديدة العدوانية، والصين هي بالفعل المصدر الأكبر عالميا للمدخرات، والبلد الأكبر تجاريا، والاقتصاد الأكبر في العالم(على أساس تعادل القوة الشرائية)، وهي تجابه الغرب بحقائق اقتصادية واستراتيجية جديدة. فليس هذا وقتا للانقسام الأوروبي والضعف الاقتصادي"...كما يزعم "استيجليتز" بقوة: "أن لكل الناس مصلحة في نجاح المشروع الأوروبي. فأوروبا كانت مصدر التنوير الذي نتجت عنه الزيادات في مستويات المعيشة التي تميز بها القرنان الأخيران. والتنوير، بدوره، أفسح المجال أمام ظهور العلم الحديث والتكنولوجيا. ونحن ننسى غالبا أن مستويات المعيشة ظلت دهورا ودهورا سابقة، لم ينتبْهَا سوى تغير ضئيل". إضافة إلى ما سبق، يمكن القول، أيضا، بأن نمط الاقتصاد كان له دور في القيمة التاريخية للتنوير. على عكس الاقتصاد السوقي والمالي المعولم. فالعملية جدلية وذات طبيعة مركبة. ولعل التراجع الأمريكي في زمن ترامب عن الالتزام الأخلاقي الذي فرضته قيم التنوير لحماية الكوكب من تداعيات التغيرات المناخية يشير إلى أثر الذهنية الاقتصادية التي تسود العالم في الوقت الراهن. ونذكر أن أوروبا قد بدأت تماطل في دفع ما التزمت به من مال لمواجهة الآثار السلبية من جراء سوء استخدام البيئة وانضاب للثروات الطبيعية. ما يعني ليس فقط، خللا للنظامين الاقتصاديين العالمي والأوروبي. وإنما أيضا لمنظومة القيم المواطنية الإنسانية/الحضارية...
ويخلص "استيجليتز" إلى أن: "الفشل الأوروبي" غير مقبول. إذ في "عالم تحكمه العولمة، أي شيء يؤدي إلى الركود في مثل هذا الجزء المهم من الاقتصاد العالمي من شأنه أن يؤذي، دون شك، بقية أرجاء العالم"...شريطة ــ وهو ما نعرض له في مقالنا القادم ــ تحقيق ثلاث مهام أساسية كما يلي: الأولى: تفنيد الأداء الاقتصادي الراهن. والثانية: الالتزام بإصلاحات بنيوية من سبعة بنود. والثالثة: توثيق العلاقة بين التكامل السياسي والاقتصادي


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern