جوزيف استيجليتز ونقد الاقتصاد العالمي

في عام واحد قدم الخبير الاقتصادي الكبير الدؤوب ــ في هدوء وعمق ــ "مجدي صبحي" خدمة علمية ومعرفية جليلة للمكتبة العربية بترجمته لكتابين مرجعيين في الاقتصاد لعالمين اقتصاديين من حائزي نوبل في الاقتصاد...
الأول صدرت طبعته العربية مطلع هذا العام للبروفيسور بول كروجمان (1953 ــ )،الحائز

على نوبل للاقتصاد في عام 2008، وذلك بترجمته لكتاب "ضمير شخص ليبرالي"(الصادر في طبعتين الأولى قبل انتخاب اوباما في 2007 والثانية بعدها في 2009) وقد تحدثنا عنه في حينها. أما الثاني فقد صدر منذ شهر تقريبا ــ في سلسلة عالم المعرفة ــ وعنوانه: "اليورو: كيف تُهدِد العملة الموحدة مستقبل أوروبا؟"، لجوزيف إي. ستيجليتز (1943 ـ )، الحائز على نوبل للاقتصاد في عام 2001. وقد صدر الكتاب في طبعته الإنجليزية عام 2016.
وللكتابين أهمية كبيرة وقصوى تنطلق مما يلي: أولا: من أهمية المؤلفين، ليس بسبب حصولهما على نوبل للاقتصاد فقط، وإنما لأنهما ينتميا لفريق من الاقتصاديين أخذوا على عاتقهم مراجعة الاقتصاد الرأسمالي في توجهاته وسياساته التي أدت إلى تعاقب أزمات كارثية كونية على مدى قرن من الزمان تقريبا، منذ العام 1929 : سنة الكساد الكبير، إلى يومنا هذا التي نشهد فيها عقد ممتد من تداعيات ذروة أزمة الرأسمالية العالمية من جراء الأخذ بنهج وسياسات الليبرالية الجديدة منذ سنة 1979. وثانيا: أنهما يقومان بنقد الرأسمالية من داخلها. فلقد عمل كروجمان أكاديميا ومستشارا وكاتبا صحفيا مراجعا لتوجهات الإدارات الأمريكية المتعاقبة. وأعاد قراءة التاريخ الأمريكي من منظور الاقتصاد السياسي. وقدم لإدارة أوباما رؤية تخلص إلى ضرورة أن "تترافق المساواة في الاقتصاد مع الاعتدال في السياسة".
أما ستيجليتز فبالإضافة إلى حصوله على نوبل، فإنه عمل كبيرا للاقتصاديين في البنك الدولي. وكان مستشارا لإدارة كلينتون. ما أتاح له الاطلاع على الكثير من دواخل الاقتصاد العالمي من جهة. وعلى أحوال الأوضاع الاقتصادية لبلدان العالم من كل القارات. حيث شهد تحولات الاقتصادات الأوروبية الشرقية. والأزمات الاقتصادية المتعاقبة من الأزمة السويدية مطلع الثمانينيات، والآسيوية في أكثر من بلد خلال التسعينيات وما بعدها. وأخيرا الأزمة الاقتصادية الكبرى في 2008 وآثارها الممتدة إلى يومنا هذا. ما جعله شاهد "عدل" عن سوء المنظومة الاقتصادية الكونية السائدة تحت مسمى العولمة، والوحدة الاقتصادية التي أدت إلى فشل وخيبات وضحايا وسقوط. لعل من أبرزها يمكن رصد ما يلي: أولا: تنامي اللامساواة بين قلة تسيطر على غالبية الثروة. وأكثرية على القليل منها. وأثر هذه اللامساواة على عالم اليوم. والتي من أبرزها ثانيا: الانقسام المجتمعي الحاد بكل تداعياته الانقسامية. ثالثا: الانهيارات المصرفية المتكررة. رابعا: دحض كثير من المقولات الشائعة التي تبخرت واقعيا مثل قدرة الأسواق الحرة على مراقبة نفسها بنفسها. وأن الممارسة العملية تُثبت كل يوم أن هناك ضرورة تتأكد كل يوم تحتم تدخل الدولة لمواجهة "نواقص السوق". وخامسا: تحليلاته الدقيقة لتداعيات مديونية البنوك، والإقراض المُفرط. وسادسا: قسوة المؤسسات المالية وشراستها ــ من واقع خبرة شخصية وخاصة ــ على الدول الفقيرة. ونمطية العاملين فيها باعتبارهم موظفين تحكمهم مصالح الأثرياء دولا كانوا أو كيانات اقتصادية أكثر بكثير من مصالح العالم ومستقبله.
ولعل من أهم المقولات التي طرحها "ستيجليتز"، ملخصا إشكالية المنظومة الاقتصادية التي تسود العالم منذ تاتشر والمعروفة "باقتصاد الليبرالية الجديدة" هو أنها طرحت على البشرية، قسرا، الاختيار بين "النمو والإنصاف“Fairness”". ما دفعه في كل أعماله أن يطرح رؤية أو مشروعا يصب في اتجاه الدمج بين "التنمية والعدالة". وفي هذا قام بجهد معتبر يقوم على: أولا: تتبع مسار النظام الاقتصادي العالمي منذ ما يعرف في الأدبيات الاقتصادية "بإجماع واشنطن" الذي تقرر فيه الأخذ باقتصاد السوق والخصخصة. ثانيا: إخفاقات العولمة وأضرارها. ثالثا: التشريح الموضوعي للتوجهات والممارسات الاقتصادية للإدارات الأمريكية والمؤسسات المالية الدولية في زمن النيوليبرالية وسقوطها "الحر" والممتد منذ الأزمة الأسوأ التي انفجرت في 2008. رابعا: التحليل المتأني لأثر كل ما سبق على العالم بتجلياته الاقتصادية المختلفة: الصين، روسيا، أوروبا الشرقية، إفريقيا، آسيا، دول امريكا اللاتينية. خامسا: تقديم مشروعا اقتصاديا تجديديا تتحقق فيه رؤيته الداعية إلى الموازنة بين التنمية والعدالة.
ومن ثم جاءت كتبه/مجلداته تقدم نصوصا علمية حية تعكس مضمون رؤيته الاقتصادية ومنها على سبيل المثال ما يلي: أولا: مساوئ العولمة ــ 2002، (لها ترجمتان الأولى بعنوان: خيبات العولمة ــ الفارابي 2003. والثانية بعنوان ضحايا العولمة وصدرت في 2006و2007 في مكتبة الأسرة). وثانيا: التسعينيات الهادرة ــ 2006. وثالثا: السقوط الحر ــ 2010. ورابعا: ثمن اللامساواة: خطر المجتمعات المنقسمة ــ 2013. وخامسا: ثورة السياسة الصناعية في مجلدين ــ 2013.وسادسا: الانقسام الكبير ــ 2015. وسابعا: اللامساواة والنمو: الأنماط والسياسات ــ 2016.
في هذا السياق تأتي أهمية كتاب "اليورو" الذي ترجمه إلى العربية الأستاذ مجدي صبحي ليطل بنا على تجربة الاندماج الأوروبي الاقتصادي ونتاج الوحدة الاقتصادية التي يُعد "اليورو" رمزها. وذلك لأن التجربة الأوروبية الاندماجية الاقتصادية بما تمثله من أهمية كيفية وكمية في الاقتصاد العالمي قد طالتها إخفاقات حادة على عكس ما كان مُقدرا لها. وهو ما سيكون له تأثيره السلبي والضار ــ وهو ما نتناوله تفصيلا في مقالنا القادم ــ ليس على مستقبل أوروبا فقط وإنما العالم أيضا...

 

 

 


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern