’’إذا كانت دروب الغد مزروعة بالفخاخ، فأسوأ سلوك هو التقدم بعيون مغمضة متمتمين بأن كل شيء سيكون على ما يرام‘‘...
بهذه العبارة الوجيزة والمباشرة يحدد الأديب والمؤرخ والباحث "أمين معلوف"،(70 عاما عضو الأكاديمية الفرنسية منذ العام 2011)، مرامه
من كتابه الأخير "غرق الحضارات"، الصادر حديثا عن دار الفارابي ـ ترجمة نهلة بيضون. وهو الكتاب الذي يحذرنا فيه من الوضع الذي بلغه العالم في الوقت الراهن. ومن ثم خوفه من أن يلقى العالم مصير "السفينة تيتانيك". فإرهاصات الصورة البحرية، حيث العالم وسكانه من البشر يتشاركون معا في سفينة واحدة تُبحر بهم"، تهيمن عليه منذ كتابه الدراسي الأول ــ الشهير ــ "الهويات القاتلة"(1999)، وكتابه الثاني "اختلال العالم"(2009). وها هو يجعل "الاستعارة البحرية" ــ في كتابيه الدراسيين سابقي الذكر ــ إطارا مرجعيا لأطروحة مركبة في كتابه الأخير: "غرق الحضارات"؛ حول ما بات يواجهه العالم من أخطار وتحديات. أخذا في الاعتبار، إلى أنه ليس ممن "يقدسون الماضي" باعتباره الأميز. ولا ممن ينكرون جديد الحاضر في شتى المجالات وما يتفتح من آفاق أمام البشرية. حيث يقول نصا: "لست ممن يحلو لهم الاعتقاد أن الأمور كانت أفضل من قبل. فالاكتشافات العلمية تبهرني، وتحرر العقول والأجساد يبهجني، وإنني أعتبر أن العيش في عصر مبدع وجامح مثل عصرنا هو امتياز"...ولكن هناك، يضيف "معلوف": "انحرافات تبعث على القلق المتزايد، وتهدد بإفناء كل ما بناه جنسنا حتى الآن، كل ما نعتز به اعتزازا مشروعا، كل ما نعهد تسميته حضارة"...
في هذا السياق، يطرح "معلوف" مجموعة من الأسئلة كما يلي: "كيف انتهى بنا المطاف إلى هنا؟،...ما الذي حاد عن مساره؟، ما هي المنعطفات التي كان لا يجب سلوكها؟ هل كان في المستطاع تجنبها؟ واليوم هل من الممكن، بعد، التحكم بالدفة؟"...
تأتي الإجابة في قالب متعدد المستويات يجمع بين: أولا: استدعاء جوانب دالة من حياة الكاتب. ثانيا: تذكر مشاهد وأحداث شهدها وعاشها أمين معلوف من خلال عمله أو جولاته. ثالثا: مطالعاته المتعددة. رابعا: مراجعاته لكل ما مر به واختبره وطالعه...إنها منهجية في الكتابة تتداخل فيها السيرة الذاتية، وتوثيق الوقائع، واستحضار لمشاهد بصرية يقوم بالتعليق عليها، والنقد التاريخي، والمراجعة الفكرية، والتحليل السياسي،...،إلخ. وبالأخير، لا مفر من الاشتباك مع ما يطرحه المؤلف من إشكاليات تستحق التفكير والتأمل والانتباه والاستنفار والتناول الجدي.
يبدأ "أمين معلوف" من حيث ولد في بيروت عام 1949، من أب لبناني وأم مصرية. حيث ولد في لحظة زمنية كانت فيها "البلد (لبنان) والمنطقة في أسوأ حال". ولأن لبنان وطنه بالبنوة، ومصر وطنه بالتبني لأسرة أمه، اهتم بما يفور من "غليان" في البلدين في هذه الفترة. لذا كانت حاضرة لحظات الصعود والهبوط التي مرت بالبلدين مع سلطات الاحتلال وبخاصة في مصر وما بعد الاستقلال. كانت هناك انتصارات كبيرة واكبها اخفاقات جسيمة. ما أدى في النهاية إلى "اضطرابات ، أصبحت، في السنوات الأخيرة، مصدر قلق بالغ للبشرية جمعاء" بفعل الطائفية والارهاب. ويطل المؤلف على الإقليم وما طاله من تراجع حضاري.
وما فاقم هذا التراجع ما أطلق عليه "معلوف": "سنة الانقلاب الكبير"؛ ويقصد بها سنة 1979. حيث يقول عنها: "تجلى لي بوضوح أتناء استعراض أحداث الأمس أن أحداثا حاسمة وقعت حوالي عام 1979، ولم أدرك أهميتها في ذلك الحين. ولقد أحدثت، في جميع أنحاء العالم، تحولا دائما في الأفكار والمواقف. وليس تقاربها زمنيا بالتأكيد حصيلة عمل مدبر، ولكن هذا التقارب ليس كذلك وليد المصادفة. وسأتحدث بالأحرى عن اقتران. كما لو أن فصلا جديدا قد نضج، وراحت أزهاره تتفتح بصورة متزامنة في ألف مكان ومكان، أو كما لو أن روح العصر تنبهنا إلى انتهاء دورة وابتداء دورة". يشير "معلوف" إلى اقتران المحافظة الدينية متمثلة في ثورة الخميني(فبراير 1979) والمحافظة الاقتصادية والسياسية التاتشرية(مايو 1979 والتي لحق بها ريجان 1980)...إنها "المحافظة المركبة: الدينية الاقتصادية السياسية"، إن جاز التعبير، ستكون لها انعكاسات كبرى على العالم بأسره. حيث، بحسب "معلوف" سوف "تطيح المقاربات الأكثر توافقية". ولا يفوته لفت النظر إلى حدثين سبقا سنة الانقلاب الكبير وذلك بتولي "دينج شياو بينج" زمام السلطة في الصين من جانب والبابا يوحنا بولس الثاني تدبير شئون الفاتيكان من جانب أخر. حيث اتبعا فكرا وسياسة محافظة كانا لهما تأثيرا كونيا. إنها انقلابات أربعة تعاقبت في غضون سبعة أشهر في سياقات ثقافية واجتماعية شديدة التباين.. وربما ساهم في ذلك "الأزمة المستفحلة للنظام السوفيتي من جهة، والأزمة النفطية من جهة أخرى"...وربما نضيف ــ من جانبنا ــ أزمة النظام الاقتصادي العالمي وكيف قلب المائدة على الجنوب، والتي أشرنا لها في مقالنا منذ شهر تقريبا عن حرب أكتوبر والتنمية المستدامة.
وفي المحصلة، تشكلت سمات مقلقة لعصرنا الراهن منها: أولا: إضفاء المشروعية على الفروق الاجتماعية مهما بلغت حدتها. ثانيا: تصاعد النزعات التفكيكية. ثالثا: إضعاف دور الدولة وتغييبها وخطورة ذلك. رابعا: الاحتدام المتعاظم للمشاعر المرتبطة بالهوية. خامسا: العنف والإرهاب العابر للحدود. سادسا: احتمالية الاستغناء عن الإنسان في ظل زمن "الروبوتات" أو "الإنسان الآلي" أو ما حذر منه مؤسس "دافوس" مخاطر الثورة الصناعية الرابعة....استعرض "معلوف" تحت هذه السمات الكثير من المخاطر بالتفصيل التي تحدق أو ستحدق بنا في هذا القرن...ولكنه يختم كتابه بالأمل قائلا: "الأسوأ ليس أكيدا على الدوام"...