حرب أكتوبر والتنمية المستدامة

يجمع كثير من الاستراتيجيين السياسيين على أن حرب أكتوبر 1973 حدثا تاريخيا فريدا...ويؤكدون أيضا على أنها كانت لحظة فارقة بين زمنين...وتشير القراءة الدقيقة للكيفية التي قامت الحرب على أسسها من جهة. وما ترتب على نتائج الحرب من تحولات جذرية في المنظومة العالمية: الاقتصادية والسياسية، من جهة أخرى...كيف؟
إن ما جمع بين الأمرين في هذا المقام هو "التنمية المستدامة". نعم هو مصطلح حديث ولاحق. إلا أن تعريفه ينطبق على

نموذج حرب أكتوبر إذا تناولناها من منظور تنموي. كما أن حرب أكتوبر ــ وهنا المفارقة أو اللقطة التي سأركز عليها ومن خلال دراسة قمنا بها مؤخرا حول التنمية المستدامة ــ قد دفعت من ضمن ما دفعت من تحولات جذرية كونية أن تطلق ميلاد "التنمية المستدامة".
بداية، نشير إلى أن التعريف المعتمد "للتنمية المستدامة"، بحسب ما جاء في تقرير "بروندتلاند"(1987)هو الآتي: ” التنمية القادرة على تلبية احتياجات الأجيال الحالية، دون أن يكون ذلك على حساب قدرة الأجيال المستقبلية على أن تفي باحتياجاتها‘‘. ’’تم التأكيد على أن التنمية هي نتاج علاقة متقاطعة بين البيئة، والاقتصاد، والقضايا المجتمعية التي تتعلق بالمواطن: الاجتماعية والسياسة والثقافة‘‘...
وبالعودة إلى حرب أكتوبر فلقد كانت بهذا المعيار نموذجا تنمويا متكاملا نرصد عناصره كما يلي: أولا: العبور والتحرير بواسطة الالتزام الوطني والأخلاقي والحضاري من قبل الجيل الحاضر بكل ألوان طيفه من أجل الأجيال القادمة. ثانيا: التكامل الفني العملياتي بين أفرع الجيش المتعددة، وبين القيادة والقاعدة،..،إلخ. ثالثا: التكامل بين الجبهة الداخلية من خلال التعبئة الوطنية والسياسية في المدارس، والجامعات، والمصانع، وأماكن العمل وبين الجيش وعملياته العسكرية التي انطلقت مع حرب الاستنزاف واكتملت بالعبور وتحرير الأرض. رابعا: استمرار المشروع التنموي وضرورته التاريخية في لنجاح حرب التحرير. وذلك تحت شعار "يد تبني ويد تحمل السلاح". خامسا: الاصرار على استمرارية الانتاج الفني والثقافي والأدبي والمسرحي المتميز. حيث ظهرت في الفترة بين 1968 و1973 موجات ابداعية وجيلية جديدة في الشعر، والمسرح، والفن التشكيلي، والأدب، والسينما. وكلها تؤكد أن مصر لم تزل حية مبدعة.
في المحصلة، خلقت حالة الاستعداد للحرب والانخراط فيها تدريجيا من خلال عمليات خاطفة عقب 1967، ثم انطلاق عمليات حرب الاستنزاف بشكل منتظم ومتعاقب، فانطلاق حرب العبور والتحرير، حالة من الثقة بالنفس والقدرة والإبداع في شتى المجالات. من أجل المستقبل...لذا نحسب حرب أكتوبر "تجليا للتنمية المستدامة"...
أما عن كيف كانت حرب أكتوبر مدخلا فرض على المجتمع الدولي ضرورة الأخذ بالتنمية المستدامة سبيلا من أجل حياة كريمة وحرة وعادلة تراعي حقوق أجيال المستقبل. فنشير إلى أن حرب أكتوبر جرت في ظل ظرف دولي غاية في التعقيد يحكمه صراع محتدم بين المعسكرين الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، والغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية يتجلى في صراعات عبر حلفاء كل معسكر في العديد من مناطق العالم وعمليات كواليسية دائمة. وذلك في ظل وضع اقتصادي مرتبك. فلقد شهد مطلع السبعينيات من القرن الماضي، "انكماشا ملحوظا في استثمارات الاقتصادات الغربية. وتحديدا، في عام 1971 أصبح الدولار الأمريكي غير قابل للتحويل إلى ذهب، مما أدى إلى زعزعة النظام النقدي والمالي الذي أنشأته اتفاقيات "بريتون وودز". كذلك أزمة عميقة في الانتاج الغذائي في كثير من بلدان العالم الثالث. وقد استمرت الأزمة متفاقمة حتى أعلن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية(الأونكتاد) فشل النظام الاقتصادي العالمي وعدم قدرته على تحقيق العدل بين الشمال والجنوب أو بين الأغنياء والفقراء أو بين العالم الأول وما دونه. وذلك في سبتمبر 1973.
ولم تلبث أن نشبت بعد ذلك حرب أكتوبر التي نظرت إليها دول العالم الثالث نموذجا في القدرة على اتخاذ قرار وطني مستقل على غير رغبة القوتين الأعظم. حيث كان من العناصر الحاسمة التي استخدمت في الحرب هو السيطرة الوطنية على الثروة النفطية. ما منح الأوبك القوة في رفع أسعار النفط.
ويشير المؤرخون إلى أن من نتائج حرب أكتوبر ــ التي قد لا تكون مرئية بوضوح ولكنها كانت مؤثرة في مسار المنظومة الاقتصادية العالمية ــ هو تجرؤ العالم الثالث على الضغط من أجل تأسيس "نظام اقتصادي دولي جديد". وهو ما اعتمدته، بالفعل، الدورة السادسة الخاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة في إعلان رسمي مقدم من دول العالم الثالث. في مايو 1974. وفي نفس الوقت، كانت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) تبذل جهودها في نفس الاتجاه. وكانت "الأونكتاد" تطرح فكرة البرنامج المتكامل للسلع الأولية سعيا إلى تحقيق الاستقرار في أسعار هذه السلع وفي دخول البلدان المصدرة لها. وشهد عام 1975 عقد اتفاقية لومي الأولى بين الجماعة الأوروبية ومجموعة البلدان التي أُصطلح على تسميتها: "بلدان إفريقيا والكاريبي والمحيط الهادي". وانعقاد مؤتمر ليما الذي قرر ضرورة الارتفاع بنصيب البلدان النامية في الانتاج الصناعي العالمي ليصل إلى ربع هذا الانتاج في نهاية القرن. وأفتتح في باريس بمبادرة من الرئيس ديستان مؤتمر التعاون الاقتصادي الدولي الذي سمي بمؤتمر الشمال والجنوب...وتوالت الجهود. بيد أن الأخذ بسياسات الليبرالية الجديدة في 1979 سار بالاقتصاد العالمي في مسار آخر...ولكن الحلم بالاستقلال الوطني والعدالة كما فرضتهما حرب أكتوبر ظلا في وجدان العالم وبدأ مسار آخر مضاد منذ الدعوة إلى التنمية المستدامة في 1987...

 


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern