أفكار جديدة: لها وعليها؟

’ التدافع المطرد للأحداث؛ التي شهدها العالم في النصف قرن الأخير. قد أدت إلى تضاعف ــ غير مسبوق ــ في مجالي المعرفة والفعل الإنساني‘‘...
فلقد باتت الترسانة المعرفية التي كانت مستقرة لزمن، قيد المراجعة وإعادة النظر بشكل دائم. نظرا للتحولات الكونية الدائمة. ولكن ما مدى فائدة الجديد...في هذا السياق، يأتي مجلد عالم الجغرافيا السياسية الفرنسي "ميشيل برونو" حول "شعوب المنطقة الوسطى

بين أوروبا وآسيا"(صدر بالفرنسية 2012 وتمت ترجمته إلى العربية عن سلسلة عالم المعرفة التي تصدر من الكويت في يوليو الماضي في 500 صفحة)...أو ما كان يعرف "بآسيا الصغرى، التي كانت بمنزلة القلب أو المجال المركزي لإمبراطوريتين متعاقبتين هما: البيزنطية والعثمانية. واللتان ورثتهما اليونان وتركيا. وهي المنطقة التي تشهد توترا حادا وعدم استقرار منذ مطلع القرن العشرين وإلى يومنا هذا. ما جعلها "مسرحا لتصفيات عرقية وإبادة ومن ثم تهجير انتهت بمعاهدة لوزان، ليس لها مثيل دولي، لمبادلة السكان بين اليونان وتركيا سنة 1923". ومع مرور الوقت تحول الإقليمين من "إقليمين تعدديين إلى إقليمين أحاديين"...وفي هذا السياق "فقدت أوطان، وهاجرت تجمعات بشرية متنوعة إلى أماكن عدة،...،إلخ". نعم كان هناك ما يشبه ما جرى في آسيا الصغرى ــ وإن كان على نطاق أصغر في منطقتي البلقان والقوقاز. إلا أن ما جرى في عمق آسيا الصغرى، قد أثر في بنى الدول القومية البازغة. وبقيت هذه الآثار إلى يومنا هذا. والذي تمثل في هجرات ممتدة ومتواصلة كان من نتيجتها خلق منطقة وسطى بين الشرق والغرب أو ما بات يُعرف "بشعوب الحدود" مع أوروبا.
في هذا الإطار، يحاول "برونو" أن يعيد النظر في "الجغرافيا السياسية" الراهنة "لآسيا الصغرى، أو الأناضول أو تركيا، التي يراها ـ بالرغم من فشلها في الحفاظ على التعددية داخلها. وانتقال الجماعات البشرية التعددية إلى حدودها أو إلى دول خارجها ــ لم تزل تنتمي إلى مجال أوسع منها بكثير، وهو المجال الوسطي الممتد من البحر المتوسط إلى آسيا الوسطى، ومن بحر الأدرياتيك إلى بحر قزوين، وتتقاطع فيها مسارات شعوب وثقافات الشرق والغرب.
ويقوم برونو بمراجعة للأدبيات التي تناولت هذا الشأن. وتأصيل تطور الأفكار حولها فيما يعكس تأسيس جديد لجغرافيا تاريخية للمجال الآسيوي الصغير متحرر من التوظيف السياسي الإقليمي والدولي. وبالأخير يطرح رؤيته في ضوء المستجدات من منظور الجغرافية السياسية. ويقترح "برونو"، بداية، "بدلا من مفهوم الحضارة، استعمال مفهوم: الشعوب ذات البعد العالمي عبر المدى الزمني الطويل، أو الشعوب الإمبراطورية، أو الشعوب القادرة على الاستمرار، وهي شعوب يكون لها منطق أو سياق إقليمي خاص بها"...
ويتيح منهج "إعادة النظر" نقد وتقييم ما نتج عن الصراعات الاستراتيجية للهيمنة سواء من قبل الخارج الغربي ــ عموما ــ أو الهيمنة الإقليمية التي تحاولها بعض القوى خصوصا. لذا يبدأ "برونو" بمحاولة مراجعة الاجتهادات التاريخية للجغرافيا السياسية من: أولا: التصنيف الاستعماري/الاستشراقي/الاستعلائي الذي يقسم العالم إلى شرق وغرب لا يلتقيان قط. ثانيا: التصنيف الديني للعالم. أو محورية الدين في كل حضارة. على طريقة توينبي و هانتيجتون. ثالثا: التصنيف الوصفي للظاهر الذي لا يعكس تفاعلات الواقع العميقة المتداخلة العناصر. رابعا: التصنيف بحسب المجال الجغرافي التي تتحرك فيه كل حضارة. بحسب بروديل" في قواعد الحضارات.
ويميل "برونو"، بالنهاية، إلى الأخذ بمفهوم الشعب ــ القريب من مفهوم الإثنية ــ كوحدة محركة "حتى إن لم يكونوا يعيشون في بلد واحد"، والإثنية لديه قد تكون: لغة، أو دين، أو عرق، أو أي رابط آخر، والشعب لديه يحفز الدولة على التقدم. مثلما كان يفعل وقت الاستعمار في دفعها للاستقلال. كما أن مفهوم الشعب يندرج ضمن الزمن الطويل وهو زمن أطول من زمن الدول والسلالات التي تحكمها "فداخل الشعب تتعاقب الأجيال كالنهر الذي يستمر في الوجود بالتجدد المستمر لمياهه"...
وبالرغم من ألمعية بعض الأفكار إلا أننا لاحظنا توظيفه لبعض الأفكار في غير موضع مثل رفض الدكتور جورج قرم للنظرة الغربية التي تعتمد التطابق بين الأديان والحضارات. وذلك لأن هناك تنوعا مركبا في إطار كل حضارة. كما أن هناك بنى اجتماعية اقتصادية مركبة تبلورت عبر علاقات ممتدة تتجاوز الروابط الإثنية المتنوعة وتلعب دروا موحدا.
ويبدو لي على الرغم من الزخم المعرفي المنتشر في ثنايا الكتاب والمراجعات المعتبرة والجداول والرسومات التوضيحية التي تنم عن إدراك عميق للقضية، وتنوع زوايا المقاربة ما يعكس ثقافة واسعة تحاول في المحصلة دراسة واقع آسيا الصغرى المعاصرة. إلا إن الكتاب ــ في جوهره ــ يواجه إشكالية الهجرة المتجددة والمتزايدة إلى أوروبا من جهة. ومن جهة أخرى ما يصفهم بجماعات الشتات الذين لم يندمجوا في أوطانهم/مجتمعاتهم الجديدة.
وعلى الرغم من نجاح الكتاب في الكشف التفصيلي عن الإرث العثماني السلبي لإشعال الكثير من الإشكاليات مثل: الموقف من القوميات التي كانت تعيش على أرضه، وتأجيج الصراعات أو "الواجهات الحدودية" المتعددة، ومحاولة استعادة المشروع العثماني في صورة جيدة بما يترتب عليه من تداعيات. فإنه لم يستطع أن يبلور ــ في ظني ــ رؤية تصب في اتجاه التحرر من الصراعات الضيقة...وأهمية الكتاب أن هناك تيار من الدراسات الراهنة تسير في اتجاه ما طرحه الكتاب الذي له ما له وعليه ما عليه...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern