’’...بيروت. مدينة عريقة. مدينة لا أرى نفسي، بصحتها الكاملة، إلا فيها ــ عندما أتمرأ في مرايا العالم. مدينة أعشقها. وبقوة هذا العشق وسيطرته، لا أقدر أن أراها إلا جميلة وكاملة. لا أقدر أن أتحمل ما يضفي عليها البشاعة، أو ما يحيل جسدها إلى مجموعة من الركام...‘‘...
لم أجد سوى كلمات المبدع "أدونيس" للتعبير عنألمي لبيروت وأنا أشاهد خبر انفجار مرفأ بيروت مساء الثلاثاء الماضي...فهي المدينة الأكثر استقبالا لي في الفترة من يناير 1995 وحتى فبراير 2020...فعلى مدى ربع قرن، بالتمام والكمال سافرت إلى بيروت عشرات المرات...تعرفت عليها في لحظة فارقة تجاهد فيها لاستعادة نفسها بعد حرب أهلية طويلة (1975 ــ 1990)، وتحديدا شخصيتها التي تتسم أولا: بالتنوع ذات "التركيب المتفرد: بشريا وثقافيا"، وذلك لاستكمال مشروعها الإبداعي: الحداثي والتنويري. وثانيا: الاحتضان غير المشروط للوافدين إليها...ما يضمن سلامة واستمرار مشروعها ...
أقبل اللبنانيون على نسيان تجربة الحرب الأهلية المريرة التي كان، فيها، "الظلام يلف كل شيء" في شوارع بيروت؛ بحسب "صنع الله إبراهيم" في عمله الفذ والحي: "بيروت بيروت"...عمل جيل الحرب على أن يربي الأجيال الجديدة على ضرورة ما يلي: أولا: عدم تكرار تجربة الحرب. وثانيا: العمل بشتى السبل على تجنب ــ قدر الإمكان ــ ما أوصلهم إلى الحرب الأهلية...ومن ثم عملوا على إعادة إعمار بيروت جديدةمتحررة من أخطاء الماضي...وبالرغم من الكثير مما لحق بمشروع الإعمار من ملاحظات، إلا أنه أعاد بيروت: "ست الدنيا"، بدرجة أو أخرى، إلى حالة مقبولة وحية بفضل جيل ما بعد الحرب الذي قرر جانبا كبيرا منه أن يكون "كتلة تاريخية" ــ بحسب ما كان يبشر دوما الراحل الكبير الصديق الفقيه والأديب السيد "هاني فحص" ــ تتجاوز: اللبننة، والطائفية، وهشاشة الدولة، والتفكك، والفساد،...،إلخ، وتعمل، بالأخير لبناء لبنان جديد يتجاوز ما يلي:
أولا: التسويات الهشة التي عرفها تاريخيا وتركت الكثير من الندوب في جسده السياسي قبل تأسيس لبنان الكبير في 1920.
ثانيا: التداعيات الإشكالية لفترة الانتداب الفرنسي على الحياة السياسية اللبنانية.
ثالثا: الإعاقات البنيوية التي رسخت في لبنان بعد استقلاله في 1943 وطالت "التطور الاجتماعي والاقتصادي للبلاد". ما أوصل لبنان إلى "الانفجار الطائفي" في 1975واستمراره لمدة 15 سنة. (لمزيد من التفاصيل يراجع في هذا المقام، جورج قرم، لبنان المعاصر: تاريخ ومجتمع، المكتبة الشرقية، 2004).
بيد أن "الطائفية العميقة"،إذا جاز التعبير، بقيت حاضرة وفاعلة، والأهم أصبحت أكثر مؤسسية. ما حال دون أن تنطلق لبنان بقيادة "كتلتها التاريخية"؛ المتحررة من الطائفية والرافضة للاقتتال كليا، في تعويض ما فاتها، من جهة. والأخطر تجدد ــ بشكل دوري ــالاحتقانات الطائفية من جهة أخرى. هذه الاحتقانات التي بدأت تحدث بشكل دوري نذكر منها على سبيل المثال: أولا: موجة الاغتيالات الكبرى التي جرت في 2005. ثانيا: حرب بيروت(8آيار/مايو) التي جرت في شوارع الحمرا سنة 2008، ورسمت بحسب "أدونيس""صورة قاتمة لبيروت"...مادفع البعض الثالث ــ ممن لا ينتمون للطائفية العميقة وبالطبع ليست لديهم جرأة الجيل الجديد أو الكتلة التاريخية الجديدة التي تريد أن تحدث تغييرا حقيقيا ــ إلى القبول بتسوية جديدة حتى لا تعود البلاد إلى فترة مريرة من تاريخها. وكان مفاد هذه التسوية الآتي: "إذا لم نستطع تغيير البلد، علينا منع البلد من تغييرنا"(لا أذكر بدقة من قال هذه العبارة الدالة. أظن قائلها هو الفنان العبقري زياد الرحباني).
ومع مرور الوقت، تفاقمت الأحوال الاقتصادية وساءت الخدمات وتكشفت شبكات الفساد وانطلق ما عُرف "بحراك أغسطس/آب 2015" تقوده "الكتلة التاريخية"؛ الموجوعة بحسب التعبير الذي دأب كثيرون على ترديده في وصف أحوالهم، وهي الكتلة التي تتكون من: أولا: الأجيال الجديدة التي تنتمي للألفية الجديدة وقيمها المواطنية/الإنسانية. وثانيا: الفاعلون الحداثيون في المجتمع المدني، وثالثا: الفقراء...يجمعهم الحراك ضد "المركزية الطائفية" لصالح دولة المواطنة. والتزموا في حراكهم بأمرين هما: الأول: "سلمية الحراك التامة". والثاني: التعبئة العابرة للطوائف(18 طائفة)، والتي تعبر عمليا وواقعيا عن تشكيل كتلة تاريخية مواطنية بازغة تنادي بمطالب اقتصادية واجتماعية وانسانية واضحة واضعة "الطائفيون" من جانب و"التسوويون" من جانب آخر في مأزق تاريخي...والأهم أزالت من بيروت "القتامة"، ومنحت وسط بيروت ــ بين المرفأ (الميناء: بدلالته الاقتصادية ورمزيتهكنقطة تواصل مع العالم أخذا في الاعتبار أنالمرفأ تاريخيا كان منفذا حيويا للعبور من وإلى بيروت)، والروشة ( بدلالتها الثقافية والتراثية) ــ قبلة حياة بأن جعلته موقعا ونقطة لقاء لحراكييها من شتى الانتماءات والجهات والطبقات والأجيال للحلم/للعمل معا من أجل لبنان جديد: وطن لجميع اللبنانيين على قاعدة المواطنة...حتى وصل الحلم/العمل إلى ذروته في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 وما بعدها...
ظن الجميع أن عام 2020؛ عام مئوية تأسيس لبنان الكبير(1920)، يمكنه أن يشهد تصويبا للصيغة التاريخية التي قام عليها لبنان باعتباره "معادلة توفيقية بين الطوائف" أو "تجمع طوائف" ــ بحسب "غالي شكري" في كتابة المرجعي الهام: "عرس الدم في لبنان"؛(دار الطليعة ــ 1976)؛ أكثر منه "وطن"...أو بلغة العلامة الدكتور "كمال الصليبي" التي استعار فيها آية من الكتاب المقدس لوصف المسألة اللبنانية: "لبنان بيت بمنازل كثيرة: الكيان اللبناني بين التصور والواقع"(دار النهار ــ 1990)...وأن يجد حلا جذريا للأوضاع الآخذة في انهيار البلاد والمسببة لأوجاع العباد...ولكن بين حريق الجبل الطبيعي/البيئيوحريق المرفأ صارت بيروت منكوبة بحسب البيان الرئاسي الصادر ليل الثلاثاء الماضي...
"فسلام من قلبي لبيروت" ولأهلها ولتنوعها وشوارعها وبحرهاوجبلها...بيروت التي سأظل أعشقها...وأثق أن دعوات عشاقها سوف تمنحها وكتلتها التاريخية قيامة جديدة...