كشفت "الجائحة" الغطاء عن عورات"زمن الليبرالية الجديدة الفائقة" إذا ما استعرنا تعبير المفكر الفرنسي المرموق، والذي عمل مستشارا للرئيس فرانسوا ميتران مدة 20 عاما، العالم الاقتصادي والسياسي "جاك أتالي"(77 سنة). وهو الزمن الذي تبين مدى فداحةاختلالاته واخفاقاته. ما أدى إلى تجسيد إلى أي حد تعيش الإنسانية حالة من "الهشاشة التاريخية"، الغير مسبوقة، على جميع الأصعدة...
ومن ثم انطلق حوار جاد ممتد عبر القارات حول مستقبل العالمتشارك فيه كل أطياف الفكر الإنساني. وقد اجتهدنا أن نعرض لجانب منها فقدمنا رؤى: "آلانباديو"، و "جوديثباتلر"، و"سلافويجيجيك"، وآلانباديو"، و"آلان تورين"، و"فوكوياما". كما عرضنا للبيان التاريخي الهام الذي وقع عليه 200 شخصية من نخبة مبدعي العالم،...،إلخ. وكلها رؤى تنطلق من أن اللحظة التاريخية التي تعيشها الإنسانية هي لحظة كنا قد وصفناها في مقال سابق بأنها لحظة "فائقة فارقة". فالعالم ما بعد الجائحة لن يكون ــ بالمطلق ــ هو عالم ما قبل الجائحة...
فعالم ما بعد الجائحة لن يقبل استمرار ثقافة "ما بعد الحقيقة" التي روجت لها الليبرالية الجديدة للتعمية والتغطية على: أولا: الاختلالات التي طالت شتى العلاقات من جهة، وثانيا: الإخفاقات التي توالت على الكوكب وغالبية مواطنيه في الأربعين سنة الأخيرة من جهة أخرى...إنها الاختلالات/الإخفاقات التي تجسدت في الآتي: أولا: "جوائر" اقتصادية كارثية، وثانيا: "جوائح" بيئية، ومناخية، وبيولوجية مدمرة...
وعملت الأنظمة السياسية وبخاصة في المركز الغربي والمؤسسات الدولية والشركات العملاقة الاحتكارية على ممارسة الخداع لتجميل الواقع وتصدير صورا غير حقيقية مغايرة للواقع الأصلي. وهي الفكرة التي عبر عنها المفكر الأمريكي رالف كييس في كتابه: "عصر ما بعد الحقيقة: اللا أمانة، والخداع في الحياة المعاصرة" ــ 2004".والذي رصد فيه كيف أصبح "الكذب" لا "الحقيقة" أكثر قبولا...وكيف أن الحقيقة والكذبة باتتا متشابكتين في ظل التدفق المعلوماتي الكبير والذي يصعب فرزه وتنقيته. وعليه تلتبس الحدود بين الحقيقي وما هوغير ذلك...فلقد صارت الدول/الشركات صاحبة المصلحة في استمرارية انتهاك البيئة وانضاب مقدراتها وثرواتها هما أول من يدافع عن حماية البيئة، والمواظبة على حضور مؤتمراتها، وتشجيع المؤسسات الدولية على تبني قضاياها، والحرص على أن تكون إشكالياتها على رأس جدول أعمال المنتديات العالمية مثل "دافوس"...
وتختفي الدول/الشركات في أوقات استحقاق دفع الفواتير الملزمة من أجل حماية وصيانة الكوكب...لذا تعثرت سفينة الكوكب، بما تضم من مواطنين من شتى القارات، عن الوصول إلى بر الأمان...
من هنا أصبح من الواجب أن يتوقف "الهراء"، بحسب تعبير أحد الباحثين المعتبرين، في وصفه لاستراتيجية "تستيف الحقائق والوقائع في صيغ مناقضة لحقيقتها المؤلمة" التي تقترفها المؤسسات الدولية(كذلك ــ بامتياز ــ الإدارة الترامبية)...
في هذا السياق، نبه الأمين العام للأمم المتحدة الدول الأعضاء، في عام اليوبيل الماسي للمؤسسة الدولية، لحال العالم وما يعانيه من أخطار وتحديات...وحددها في خمس كما يلي:
أولا: التوترات "الجيو استراتيجية" التي تجتاح بقاع كثيرة من العالم وتنذر بما وصفه "بالشق الكبير" في بنية النظام العالمي.
ثانيا: العملية الجارية من إحراق الكوكب بفعل سوء التعاطي مع مقدراته. ما يؤدي إلى الإخلال بدرجات الحرارة. ومن ثم دفعه للاحتراق. وتأكيد الأمين العام للأمم المتحدة إلى أن الكوكب في هذا الإطار قد قارب أن يصل إلى نقطة خطر لن يمكن للبشرية فيها التراجع.
ثالثا: تنامي عدم الثقة الكونية في العملية الاقتصادية العابرة للقارات والممتدة عبر عقود والمعروفة باسم العولمة. ذلك لأنها أسفرت عن "لا مساواة تاريخية حادة" غير مسبوقة بين أقلية ثروية وأغلبية مواطنية تعاني بدرجة أو أخرى.
رابعا: الجانب المظلم من التقدم في التكنولوجية الرقمية من تهديد جوهر وطبيعة العمل من حيث تزايد الاعتماد على "الأتمتة"(الحواسب والآلات الذكية) وما يترتب على ذلك من: بطالة، وانتهاك للخصوصية، والعديد من المشكلات الاجتماعية المعقدة وغير ذلك...
خامسا:كابوس "الكوفيد ــ 19" الذي يجتاح العالم حاصدا الأرواح، وفي نفس الوقت، يكشف زيف وعود الأنظمة والمؤسسات في حماية المواطنين ــ خاصة الفقراء ــ في العموم، وهشاشة الأنظمة الخدمية الصحية والتأمينية على وجه الخصوص.
وفي المحصلة دخول العالم إلى وضعية حرجة انكماشية وراكدة...وهي وضعية سوف تتفاقم إذا ما حلت بالكوكب موجة ثانية من الجائحة تهاجم الدول الفقيرة قبل أن تعود مرة أخرى إلى الدول الغنية في ظل أزمة اقتصادية ممتدة منذ 2008 وإشكاليات بيئية متفاقمة...
شكلت هذه الأخطار/التحديات "قماشة" حوارية لتصور السيناريوهات المحتملة لمستقبل العالم كما يلي:
السيناريو الأول: سيناريو ’’ الفوضى‘‘؛وهو السيناريو "الكابوسي" الذي سوف يتعرض له الكوكب...ما يحول دون ممارسة الحياة الإنسانية والمجتمعية الطبيعية. وتزداد فرص هذا السيناريو إذا ما بقي العالم متمسكا بالنهج الذي أوصلنا إلى الوضعية الحرجة، التي أشرنا إليها، ومدافعا عن رؤى اقتصادية تبين فشلها.
السيناريو الثاني: سيناريو ’’ التعثر‘‘؛ وهو السيناريو الذي يعكس رغبة في مواجهة الوضعية الحرجة دون إحداث تغيرات جذرية. ويعكس هذا السيناريو ضعف إدراك حجم التحولات وتداعياتها وتأثيراتها. وإنها مجرد أزمات يمكن معالجتها بإصلاحات جزئية. قد يفلح هذا السيناريو في أن يدفع العالم قليلا ولكنه لن يستطيع أن يعبر به الوضعية الحرجة.
السيناريو الثالث: سيناريو ’’الجسارة‘‘؛أو الجرأة في حل إشكاليات العالم حلا جذريا في إطار تضامني يبتغي تأسيس جديد للعالم يحقق إنسانية/مواطنية سكانه دون تمييز...ما يلزم إعادة النظر في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي تأسس في سان فرانسيسكو من أربعينيات القرن الماضي...ونتابع تفصيل أكثر لسيناريو "الجسارة"...