قليلون من يحولون معاناتهم إلى إبداع لمواجهة معاناتهم...ويشاركون به غيرهم لتفعيل مقاومتهم لآلامهم...من هؤلاء تأتي أديبة نوبل (1993) الأمريكية والأكاديمية "توني موريسون"(1931 ــ 2019)...
استطاعت "توني موريسون" ــ التي غادرتنا في أغسطس من العام الماضي ــ أن تجعل حياتها وأدبها الروائي نبراسا وسندا ودافعا لمن هم في حاجة إلى مقاومة أوضاعهم المزرية بفعل الإفقار المقصود والإقصاء المتعمد. فلقد أدركت أن مقاومة "المعاناة" تكون "بالإنجاز"...وأن دحر الازدراء يكون بتلازم التعليم والإبداع...ويبدو أنها وعت أن هذا التناقض المؤلم في حياة الإنسان هو الذي يدفعه للتقدم...أو بحسب ما أشارت في نصها البديع "جاز"(1992 ـ ص 158)؛ما نصه:
"نحن نموت...ربما ذلك هو معنى الحياة. لكننا نُنجز لغةً. ذلك يكون كنز حياتنا"،
و"يصون تمايزنا"...ويحررنا من كل القيود...
هكذا بفعلي التعليم والإبداع الأدبي الروائي، لم تتحرر "توني موريسون" وحدها، تحرر معها كل "المنبوذين": سودا كانوا أو بيضا، إناثا كانوا أو ذكورا،...وهنا تكمن عبقرية "توني موريسون" الأديبة الزنجية التي استطاعت أن تحول همها "الأسود"، الذي استمر معها على مدى ثلاثة أجيال، إلى هم إنساني جدير بانتباه ومقاومة الجميع دون تمييز من جهة. ما يستحق الاحتفاء والتقدير من جهة أخرى...لذا كانت واعية على مدى عمرها المديد الذي شارف على التسعين بأن ترفض أن تكون "زنجية(امرأة) محررة"...وإنما سعت دوما من خلال تفوقها التعليمي وإبداعها الأدبي لتكون:
"إنسانا حرا/(إنسانةحرة)"(جاز ــ ص 116)...
فلا يعود يصنف الناس، وفق لونهم أو عرقهم أو دينهم أو مكانتهم أو ثروتهم أو جنسهم، وإنما وفق إنسانيتهم. لذا لابد من أن يتوقف من يصنعون عرائس الأطفال عن صناعة عرائس ذات لون أزرق وشعر أصفر فقط للجنس الأبيض وكأنهم هم الوحيدون في هذا الكون المتعدد الألوان والأعراق. ومن ثم عليهم أن يصنعوا عرائس متنوعة الأشكال تناسب الجميع المختلفين...هكذا، وانطلاقا من الأمور الصغيرة،
يمكن: "أن نغير مجرى الأحداث، ونبدل مسار حياة البشرية"، (رواية العين الأكثر زرقة ــ 1970 ص 158)...ذلك بإحداث تحولا جذريا في الوعي والتفكير من جانب، وتفكيكا حاسما لآليات الهيمنة المختلفة من جانب ثانٍ، وتصويبا لمنظومات القيم الثقافية والصور النمطية من جانب ثالث؛ حيال "المنبوذين" و"المختلفين"...فكل منا ــ بحسب موريسون ــ "يتحلى بجمال فريد، نسبي، علينا اكتشافه"، ومواجهة السياقات العنصرية التي تحول دون تمتعنا بجمالنا الشخصي، وحقوقنا العامة، أي انسانيتنا/مواطنيتنا...
لقد ألهم أدب "موريسون" ما عُرف "بحركة الحقوق المدنية المدافعة عن حقوق السود في الولايات المتحدة الأمريكية ــ خاصة مطلع السبعينيات ــ وحررها من الوقوع في فخ العنصرية المضادة التي تؤدي في النهاية إلى انقسام المجتمع على أساس عنصري. وذلك بوضع مسألة "الاستعلاء الأبيض" في الإطار المجتمعي والإنساني...ودائما ما كانت تقول "موريسون" ما ملخصه الآتي:
"إن التصدي للاستعلاء الأبيض يجب ألا يكون بالتمحور حول الذات والتقوقع"...
وهو أمر يحتاج إلى عدم الخنوع للصورة النمطية التي دأب على رسمها هؤلاء الاستعلائيون عنوة من أجل ترسيخ الهيمنة...لذا على المرء أن يحرر نفسه داخليا من كل تراكمات ماضي القهر. وأن يعمد المرء على أن يشكل نفسه وفق إرادته و"ليس حسب الصورة التي يريد الاستعلائي أن يراني عليها"...إنها عملية مركبة تقوم على
أولا: التحرر الداخلي،
وثانيا: وادراك الذات،
وثالثا: السعي في العالم نحو بإنجاز يصب لصالح الإنسانية...
وهي عملية مركبة وممتدة ودائمة ومكلفة يقينا وقد تحتاج ــ في بعض الأوقات ــ إلى الكثير من التضحيات لا التنازلات...لذا "ضحت بطلة رواية "محبوبة"(1987 والتي حصلت على جائزة بوليتزر عام 1988 وترجمها إلى العربية أمين العيوطي 1989) بطفلها لكي تحميه من جراء حياة العبودية "الصلبة" والمباشرة المبكرة التي كانت تمارس في الولايات المتحدة الأمريكية منذ مطلع القرن السابع عشر وتحديدا في سنة 1619. وهي السنة التي استقبلت طلائع السود الذين وفدوا إلى ولاية فرجينيا التي توصف في الأدبيات التاريخية الأمريكية "بالمستعمرة الملكية الأولى"، حيث مرت حياة السود في ــ تصوري ــ بثلاثة مراحل كما يلي:
أولا: العبودية "الصلبة" الذي استمر حتى ما عُرف بدستور فيرمونت 1777،
وثانيا: النضال الأسود الذي انطلق في مواجهة فشل الوعود النصوصية الدستورية والقانونية المتعاقبة،
وثالثا: حركة حقوق المدنية التي أطلقتها في سنة 1955 واقعة حافلة مونتجمري التي تمردت فيها "روزا باركس"، كونها امرأة وفقيرة وسوداء ــ على قانون عنصري يمنع السود من ركوب الحافلات جنبا إلى جنب مع ذوي البشرة البيضاء. وهي الحملة التي امتدت حتى السبعينيات من القرن الماضي، ورابعا: انتفاضة العدالة الاجتماعية ومواجهة العبودية "الناعمة" التي بدأت في السنوات الأخيرة ولحقتها "موريسون" من خلال أكثر من واقعة جرت مع رئاسة ترامب (لم تشهد ذروتها التي جرت بواقعة خنق "جورج فلويد" مطلع يونيو الماضي، التي استغرقت أقل من تسع دقائق، وقد رويناها في مقام آخر بعنوان "10 دقائق هزت العالم")...
حملت "توني موريسون" هذا التاريخ الأليم في ذاكرتها ووجدانها. واستطاعت أن تعبر عنه في "محبوبة" (ما يقرب من 500صفحة وعُدت إحدى الروايات المائة الأفضل في عام 2002) من خلال: ثلاثة أجيال: جيل الجدة الذي حمل تراث إفريقيا معه أرض الأحلام. وجيل الأبناء الذين عانوا العبودية الصلبة. وجيل الأحفاد جيل النضال والحركة المدنية من أجل الحضور الفاعل الإنساني/المواطني...
ورغم براعة ومتعة سرد توني موريسون" إلى أنها ختمتها بقولها ــ أكثر من مرة ــ بأنها "لم تكن قصة تتوارثها الأجيال" كي تستعذب الألم وإنما لتتحرر منه...لذا باتت "إنجازا خالدا"،جدير بالقراءة...كل عام وأنتم بخير...