الزمن "الترامبي":البدايات والنتائج

في سبتمبر من عام 1987، نشرت إحدى الجهات التجارية صفحة إعلانية لتأييد ترشح ترامب لمقعد الرئاسة الأمريكية التي كانت انتخاباتها سوف تجرى في العام التالي. ولم تمر أيام قليلة إلا وتم نقد هذا الترشح ودحض الفكرة برمتها من قبل العديد من الجهات المعنية بهكذا ترشيحات...لماذا؟

يعود سبب إجهاض رغبة ترامب المبكرة لخوض انتخابات الرئاسة الأمريكية ــ قبل أن تتحقق بالفعل بما يقرب من ثلاثين سنة ــ إلى أنه قد قال، من ضمن ما قال، كلاما غير مسئول في اعتقاد الكثيرين من رجال السياسة والدولة المعتبرين. نقتطف بعضا منه كما يلي: "...الولايات المتحدة تستنفذ نفسها لتحمي حلفاء أصبحوا أثرياء نتيجة إعفائهم أنفسهم من التوظيف في الدفاع، ولأن واشنطن هي المغفل المخدوع في نظام عالمي لا يفيد إلا الآخرين"...الأهم أنه أعلن بوضوح خطأ استمرار الولايات المتحدة الأمريكية في عضوية المؤسسات الدولية حيث أبدى بوضوح ضرورة "مقاطعة هذه الهندسة أو هذا البناء"...وهو الأمر الذي دفع الدوائر السياسية والحكومية والإعلامية إلى انتقاده انتقادا لاذعا آنذاك. ومن ثم دفع ترامب إلى إلغاء فكرة ترشحه أو بالأحرى تأجيلها. ومرت الأيام واستطاع ترامب أن يحقق ما حلم به قبل ثلاثين سنة ــ تقريبا ــ مكرسا زمنا "ترامبيا" كارثيا بحسب ما تؤكد ممارساته في عديد المجالات بحسب كثير من الباحثين...كيف؟

بداية، يشير أحدهم في معرض تقييمه للواقعة السابقة على أنها تبدو للوهلة الأولى لدى البعض تعبر عن شخص مؤمن بمبادئه مهما طال الزمن. إلا أنه في عالم السياسة لا يستقيم لأي سياسي أن يصر على فكرته بمعزل عن السياق السياسي الدولي بتعقيداته المتشابكة...

فهل من المنطقي أن يطرح أي شخص في ثمانينيات القرن الماضي،فكرة، ليس الانعزال بالمعنى الأمريكي الكلاسيكي التاريخي عن العالم، وإنما الانفصال في لحظة انتصار أمريكية على القطب السوفيتي (تمثلت فيما عُرف ــ وقتئذ ــ بحرب الكواكب) أدت بالأخير إلى سقوط جدار برلين وتفكيك الاتحاد السوفيتي. وهل من الطبيعي أن يظل الرجل على قناعته بالانسحاب الكلي من المؤسسات الدولية بعد أن صارت العولمة ــ خاصة في بعدها الثقافي ــ تعني الأمركة.

إنها عزلة قصوى ــ إذا جاز التعبير ــ تتناقض جذريا مع الخيار الأمريكي الجيوبوليتيكي الكلاسيكي الذي يرى العالم امتدادا أمريكيا بالمشاركة مع الاتحاد الأوروبي الموسع (الذي يضم، إضافة إلى دول أوروبا الغربية والشمالية والجنوبية، دول أوروبا المستقلة، الشرقية، حديثا بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي ويوغوسلافيا وما يستجد من قوميات تسعى للاستقلال). ويصف أحد الباحثين هذا الخيار "الترامبي" الذي عبر عنه مبكرا وظل معه بأنه يعرض ليس الولايات المتحدة الأمريكية فقط وإنما المنظومة الأنجلو سكسونية التاريخية لأزمة تاريخية كبرى...وعليه فإن عدم الحيدة عن القناعات في عالم السياسة ليست ميزة. فإصرار المرء على تحيزاته وقناعاته بمعزل عن التاريخ ومستجدات الحاضر وما يمكن أن يطرأ في المستقبل من متغيرات هو نوع من "التوجه الغريزي"، بحسب "جيل باريس" مراسل صحيفة لوموند الفرنسية في واشنطن، الذي يعكس شخصية رجل لا يرى إلا نفسه، ومشروعه. ولا يهم أن ينادي ويجاهد ويفعل ما يعن له وفق قناعته التي قد تتناقض مع الواقع والمنطقي. كما أن كل شيء قابل لإجراء صفقات مهما كان السياق يحول دون ذلك كليا...إنها "المقاربة الصفقاتية" للشئون السياسية بحسب أحد الباحثين...

وتأكيدا لما سبق، يصف صحفيان بالواشنطن بوست شخصية ترامب بأنه: "يتخذ معظم قراراته بنفسه دون أن يستشير أحدا"؛ وذلك نقلا عن ما دأب على قوله الذي يكرره كثيرا: "أنا أفهم الحياة، وأفهم كيف يتم تشغيلها، فأنا المؤتمن الوحيد عليها"(راجع مجلدهما حول سيرة ترامب المعنون: "وجه ترامب المكشوف: رحلة أمريكية عن الطموح والغرور والمال والقوة، الصادر سنة فوز ترامب بالرئاسة)...وبالفعل يمكن للمتابع "لتويتات" ترامب أن يلحظ أنه دائما يقول عن نفسه: "أنا وحدي أستطيع أن أجد حلا"...قبل البعض هذه المقولة المتكررة أثناء الحملة الانتخابية. حيث كانت، بالفعل، شعارا جاذبا "للجمهور المتوسط: ثقافيا، وطبقيا"؛...إلا أن المراقبين والباحثين والسياسيين والأكاديميين والإعلاميين باتوا ينبهون إلى خطورة الشعار الذي صار نهجا متبعا من قبل ترامب عمليا وفعليا. ما أدى إلى ارتباك سياسي شديد في التعاطي مع كثير من الملفات الداخلية والخارجية. فعلى المستوى الداخلي هناك ملفي "الكورونا" والمسألة العرقية. أما على المستوى الخارجي فنشير إلى ملف سوريا، وملف المتغيرات المناخية، والتعامل مع أوروبا، والتجارة الخارجية خاصة مع الصين،...،إلخ.

من أبرز ما توافق عليه الكثير من المعنيين بدراسة الشأن الرئاسي الأمريكي هو أن إدارة ترامب قد مارست نوعا من الإدارة غير المسبوقة في التاريخ السياسي الأمريكي تجلت في الآتي: أولا: عدم اكتراث ترامب بمعرفة الكيفية التي تتم بها إدارة دولة الولايات المتحدة الأمريكية. وما هي العلاقة الناظمة بين البيت الأبيض والحكومة الفدرالية وبين حكومات الولايات الأمريكية المتعددة. ثانيا: عدم اكتراثه بفهم آليات العلاقة بين البيت الأبيض والمؤسسات الأمريكية المختلفة مثل: الكونجرس، والبنتاجون. ثالثا: ونتيجة لما سبق، جمح ترامب، أحيانا ليست قليلة،نحو اتخاذ قرارات وإجراءات منفردة بدت غامضة وخفية لأنها لم تتحصن بالقواعد الدستورية والقانونية والمؤسسية المتعارف عليه. رابعا: مارس ترامب الإدارة بسلوك أقرب إلى إدارة مالك لشركته من إدارة رئيس لدولة...وهناك الكثير من المواقف التي تؤكد ما سبق...إضافة إلى عدم الوفاء بالوعود الانتخابية...

الخلاصة، "التوجه الغريزي"، و"الصفقاتي"، و"الشركاتي"؛ ملامح ثلاثة حكمت الكثير من خيارات وممارسات الزمن "الترامبي"؛ وهي ملامح تصب كلها في علاج ما هو آني أي أنها تؤثر ــ بحسب أحد المراقبين ــ المدى القصير على المدى الطويل...نتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern