حفل "الزمن الترامبي" بالكثير من الظواهر المتناقضة التي استنفرت كثير من المفكرين والباحثين من حقول معرفية متنوعة...ومن ثم تعددت المقاربات التي تحاول ــ ليس تحليل ــ وإنما تشريح "الزمن الترامبي"...وأظن أنها المرة الأولى التي يحظى فيها رئيس أمريكي بهذا الاهتمام الكبير من زوايا معرفية عدة تتجاوز الاقتصاد، والعلوم السياسية، والعلاقات الدولية...فعلى مدى العامين الأخيرين تم تناول الحالة الترامبية وفق خطاباته، و"تويتاته"، وسلوكياته بشكل عام من وجهة نظر: علم النفس، والفلسفة، والتاريخ...نتناول بعضها كما يلي:
أولا: مقاربة علم النفس؛ في عام 2018 أصدر مجموعة من علماء الطب النفسي والصحة النفسية كتابا بعنوان: "الحالة الخطرة لدونالد ترامب"، قاموا فيها من خلال 27 دراسة نفسية بتحليل نفسي عميق ورصين لشخصية ترامب. واعتمدوا في ذلك على تحليل مضمون خطاباته، وتغريداته قبل توليه الرئاسة وبعدها. وتلخص مقدمة الكتاب التي كتبها أحد علماء النفس المعتبرين يعمل في جامعة كولومبيا الأمريكية بأن ترامب يصح أن يوصف في كلمتين هما:
"السوية الضارة"؛ حيث: أولا: نرجسيته الشديدة ــ وهو تشخيص ورد في أكثر من دراسة من دراسات الكتاب ــ، وثانيا: جموحه الشديد؛ قد أدتا إلى إحداث أضرار جمة في فترة رئاسته...ما يمكن اعتباره مروقا على أعراف وقوانين المجال السياسي المتعارف عليها...فإذا ما توفرتا النرجسية والجموح (الانفلات) في شخص واحد فإن الهلاك سوف يكون مصيره بحسب التشخيص الإكلينيكي المعتمد في هذا المقام. وهي حالة تسمح بأن يكون صاحبها متعدد الوجوه: طيبا، وشريرا، و... (تستلهم الدراسة عنوان فيلم "الكاوبوي" الشهير للتدليل على التحليل)...
لا تكتفي هذه الدراسات بالتحليل النفسي في صيغته العيادية التفسيرية وإنما رصدت ــ لتُثبت سلامة التشخيص ــ كثير من التأكيدات عليه من خلال الاستناد إلى أقوال صدرت وأفعال تمت لترامب مثل: قناعته بأنه جاء لإنقاذ العالم، التحرش السياسي، الاستعلاء العرقي، المبالغة في تعظيم الذات، عدم الثقة في الآخرين، الغضب، العنف حيال الآخرين، عدم الاعتراف بالخطأ، اعتبار من يخالفه الرأي من الخصوم والأعداء، القلق المرضي، أخذ الموقف ونقيضه، الخفة،...،إلخ. وكلها سلوكيات تشكل ــ إكلينيكيا ــ خطرا شديدا. ما يستوجب حماية المجتمع منها لأنها بحسب الكتاب تعد "الانفراد السياسي" انتصارا للنرجسية "، بحسب النموذج الترامبي...
في هذا السياق، يستند الكتاب إلى الكثير من المقارنات التاريخية والمواقف لرؤساء سابقين، كما يستخدم كثير من النماذج المعيارية الحديثة في مجال الطب انفسي المعاصر...
ثانيا: مقاربة الفلسفة؛ في عام 2018، أصدرت مجموعة من أساتذة الافلسفة والعلوم السياسية كتابا بعنوان: "ترامب والفلسفة السياسية: القيادة، ومؤهلات رجل الدولة، والاستبداد". في هذا الكتاب(335 صفحة)، يتناول المؤلفون السلوك السياسي لترامب من وجهات نظر ونصوص فلاسفة الفكر السياسي في العصور: القديمة، والوسيطة، والحديثة مثل: أفلاطون، وزينوفون، وأرسطو، وكونفوشيوس، والفارابي، وماكيافللي، وروسو، وماكس ويبر، وجرامشي، وكارل شميدت. إضافة إلىعدد من الدراسات التي تناولت دراسات تقويمية في ضوء تقاليد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية والنصوص الدستورية الأمريكية...
ناقشت هذه المجموعة من الدراسات المعتبرة كيف يمارس ترامب القيادة التي تعكس أمرين هما: أولا: الانفراد بالسلطة في سياق دولة دستورية مؤسسية ديمقراطية ليبرالية تقدم نفسها كنموذج يقتدى، وثانيا: الغياب للكثير من المؤهلات التي يجب أن تتوفر لرجل الدولة...ما أوصل الإدارة الانفرادية إلى وضع سياسي يتسم: بالديماجوجية، أو البلاغة الفارغة، والتعالي على المواطنين وخاصة من هم خارج العرق الأبيض الأنجلوسكسوني، والوظيفية الشعبوية التي لا تستقوى بالشعب وإنما توظفه،
ولعل من أهم الأفكار التي أوردها الكتاب هو أن الولايات المتحدة الأمريكية ذات البنية الاقتصادية الانتاجية قد اجتاحها نمط من الاقتصاد ذات طابع "مالي"...أو بلغة أخرى تحول الاقتصاد من منتج إلى اقتصاد مالي دفع إلى تقليص الإنتاج في الداخل لصالح استثمارات خارجية وداخلية ذات طبيعة غير انتاجية ما أضر ضررا شديدا بالعقد الاجتماعي برأس المال والطبقة العاملة بالمعنى الواسع. ويمكن اعتبار هؤلاء الماليون هم القاعدة الاجتماعية لترامب. ومن ثم أسس ترامب "لإدارة تجارية" بعيدة تماما عن الإدارة السياسية بحسب ماكيافللي وجون لوك وغيرهما...ولكن لا يمنع أن تستفيد الإدارة التجارية من المبادئ الماكيافللية...ما يعني أننا أمام ماكيافللية جديدة تعتمد على مهاراتها الخاصة دون الحاجة غلأى فلسفة سياسية أو رؤى استراتيجية وإنما إلى صفقات اللحظة بحسب رؤية "الفارابي" لهذا النمط من القيادة التي تقوم على الانفرادية المتطرفة بحسب "شميدت" وفق شعار: "أنا وحدي قادر على الحل"...
الخلاصة، يبلورها أحد الباحثين في دراسة بديعة استلهم مضمونهامن قراءته لأعمال شكسبير التاريخية حول الملوك: "هنري الرابع"، و"هنري الخامس"، و"ريتشارد الثاني"، يقول فيها: بأن "حالة ترامب" هي تجسيد لما أطلق عليه: "سيد سوء الحكم" بحسب النموذج الشكسبيري...(نلفت النظر إلى مساهمة الفيلسوف "آلانباديو" الهامة حول ترامب ربما نفصلها لاحقا).
ثالثا: مقاربة التاريخ؛ وتقوم بها أستاذة تاريخ بجامعة تورونتو، في دراسة افتتاحية بدورية "فورين أفيرز"، عدد شهري سبتمبر وأكتوبر 2020...حيث تشير إلى انكار ترامب لأهمية التاريخ ودروس الماضي. وهو ما تم رصده أثناء الاحتفال بذكرى موقعة "بيرل هاربر" سنة 2017...وذلك نتيجة تصريحه عن جدوى الاحتفاء...وتعقب أستاذة التاريخ الكندية بأنه لو أعطى انتباها إلى التاريخ كقاضي نزيه وصديق حاضر دوما ليعطي خلاصة تجربته لتصونه وادارته من تكرار الأخطاء. بل الأحرى تردع الجموح الانفرادي الترامبي، كذلك توفر صورة وافية لكثير من التشابكات العابرة للزمن. وهي هنا تؤكد أن الحالة الأمريكية الراهنةعاصفة؛ تشبه الفترة بين سنتي 1910 و1930 من القرن الماضي من حيث: تزايد قوة الخصوم، وضعف الأصدقاء، وانعزال أمريكا، والأخطر انبطاحها،...كيف؟...نتابع...