الحياة بين الارتهان والافتتان

فاجأني محدثي بقوله: "أراك متفائلا وتحاول أن تعمل وتنجز أكثر من أي وقت سابق، بالرغم من الجائحة التي اجتاحت البشرية حاملة معها ــ إضافة للأضرار الصحية الجسيمة ــ الإرباك، والإرجاء، والإعاقة، والتعطيل، والتباعد والعزلة، والخوف، والأرق،...،إلخ،...فهل لك أن تفسر لي سبب هذا التفاؤل؟...فقلت له في جملة مكثفة أعيها تماما ما نصه: "إنها لحظة افتتان بالحياة"...فقال بانتباه شديد: "ماذا تعني؟ وأي افتتان يمكن أن نمارسه في زمن "الكورونا"؟

أجبته: بداية، توصيفك غير دقيق فما أشعر به حقيقة وأعيشه ليس تفاؤلا بقدر ما هو نزوع نحو اكتشاف "الحقيقةعلى المستويات: الفكرية، والسلوكية، والحياتية...وأقصد بالنزوع: الدأب أن نرى حقائق الأمور، وأن نسمي الأشياء بمسمياتها. وأن نتحرر من أن نكون رهينة لكل من: المال، والسلطة، والمكانة، والقوة، والعادة، أو كل ذلك، ما يحول دون تحقيق ذواتنا سواء بفعل عوامل داخلية أو خارجية...

وهي حالة، تدفع في مجملها إلى ما يطلق عليه الفيلسوف الفرنسي "آلان تورين"(95 عاما):"إعادة الافتتان"؛ “Re - Enchantment”؛ بالعالم والحياة"؛ قبل أن أوضح ماذا أعني بذلك دعني (قلت لمحدثي) أسرد تمهيدا لهذا "الافتتان": الضروري والحتمي...

لقد حلت علينا "الجائحة" بالرغم من تحذيرات مبكرة ومتكررة تتوقع قدومها منذ انطلاق "السارس" مطلع الألفية الجديدة إلا أن الإنسانية التي يقودها ويوجهها منذ عقود تيار جائر للإنسان والطبيعة والبيئة لم تأبه بهذه التحذيرات وما سيتداعى عنها حتما.وظن أنصار الجائرة أن العالم استقر وأن التاريخ قد وصل لنموذجه النهائي المثالي الذي يجب أن يتبناه الجميع: نموذجهم، المدمر؛ أرادوا أو لم يردوا...ولكن ويلات الجائحة باغتت الجميع دون استثناء. وتبين أن "الجائرين" غير ممسكين بمقادير الأمور كما كانوا يروجون لعقود...والنتيجة أن رفع الغطاء عن كل ما هو مسكوت عنه قسرا أوتواطؤا...حيث تبين ما يلي: أولا: إلى أي مدى عجز الجميع عن المواجهة. ثانيا: مدى تضاؤل الإنسانية أمام عدو مجهول يختطف من بينهم الأحباء والشركاء والجيران دون أن يعطوا أية فرصة للمقاومة. ثالثا: تعرية أولويات الجائرون التي ليس من ضمنها الإنسانية. والأخطر، في هذا المقام، هو أن هناك علاقة وثيقة بين "الجائحة" و"الجائرة"(وهو الوصف الذي استخدمناه في مجموعة المقالات التي تناولنا فيها هذه القضية في الأشهر الماضية وتعبر عن مجموع العمليات التي يقوم بها الجائرون مضادة في مجملها لمواطني الكوكب).. ولا أبالغ بالقول أنها علاقة أكثر من حميمة بين "الجائرين" وانتشار "الجائحة"...

فلقد تأكد بحلول "الجائحة الفيروسية" أنها إحدى إخفاقات "الجائرة الرأسمالية" في طبعتها النيوليبرالية السوقية. وذلك من خلال ما يلي:

أولا: فشل المنظومات الصحية في دول الشمال والجنوب، على السواء، في مواكبة انتشار الجائحة بدرجة أو أخرى. ذلك لأن الضمان الصحي أصبح متاحا أكثر للقادرين مع تراجع النماذج: "الديمقراطية الاجتماعية"، و"الإعانية"، وغيرها،في توفير الضمان الاجتماعي لصالح النموذج "المحافظ الكوربوراتي"(توفير الضمان نظير مقابل).

ثانيا: بالرغم من تقدم البحث العلمي في المجال الحيوي، في عدد من البلدان المتقدمة والبازغة مثل الصين والهند، إلا أن فلسفة هذا التقدم تقوم على الوقاية مما هو بات معلوما من فيروسات وبكتيريات. أخذا في الاعتبار تأكد أن هذه الجهود تتم ــ في الأغلب ــ لصالح الشركات المتعددة الجنسية العملاقة وغير مسموح للشركات الوطنية أن تقوم بها لسبب أو لأخر. وتوقف هذه النوعية من الأبحاث في كثير من الدول لأسباب عدة.أي أن فلسفة البحث العلمي، في حقيقتها يتم توظيفها لمصالح القلة الاحتكارية من جهة. كما أنها لا تعنى بما يُعرف بالأبحاث "الاستباقية" في المجالات الفيروسية أو الحيوية عموما(كان تركيز الأبحاث الاستباقية في الولايات المتحدة الأمريكية ــ مثلا ــ منصبا مواجهة الهجوم النووي أو ما يعرف بالحروب الصلبة).

ثالثا: كما كشفت "الجائحة الفيروسية"، الأكثر بروزا من حيث الضرر المباشر، أنها ليست وحدها إحدى إخفاقات "الجائرة الرأسمالية"، بل إنها حلقة من سلسلة ممتدة من "الجوائر" المتعددة التي نجمت عن "الجائرة" الرئيسية التي تعاقبت على البشرية في السنوات الأخيرة من: "حرائق طبيعية"، و"اختلالات التوازن البيئية"،و"انتهاكات للموارد والثروات الكامنة"، إضافة للتداعيات اللعينة للأزمات الاقتصادية والمالية.

رابعا: ولعل أخطر ما حاولته دول الشمال: انجلترا بوريس جونسون، وأمريكا ترامب، في بداية الأزمة، من أن تمارس "سياسة حيوية" ــ بحسب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926 ـ 1984) ــ بترك الجسم الاجتماعي يكتسب مناعته بنفسه مهما كلف ذلك دولتيهما من خسارة في الأرواح. وهو ما تمت مقاومته بحسم. وهكذا في لحظة، وبحسب أحد الأنثروبولوجيين المعاصرين، عادت إدارتا أمريكا وانجلترا بالبشرية إلى عصور غابرة ما قبل حديثة معادية للعلم وجاهلة بضرورته. وهو ما يتجلى يوميا من تناقضات بين ترامب وقوة العمل المعنية بمواجهة كورونا كذلك مع حكام كثير من الولايات في التعامل مع الأزمة من جهة. كذلك موقف البعض من المعنيين ــ هناك ــبرفض مبدأ التحصن بالأمصال لأسباب دينية، والتصور الساذج بأن شرب "السبرتو" يمكنه أن يحمي من "الكورونا"...

الخلاصة،تكشفت أمورا كثيرة في الواقع. وتأكد استحالة أن نعود لحياة تنتهك من قبل "السفهاء"، ما عرضها لاحتمالية التدمير الذاتي...وعليه، إما أن يتحرر الإنسان/المواطن من حالة "الارتهان"، وينشغل بجد في تأمل الحياة و"الافتتان" بكل ما فيها من مكامن قوة ومواضع جمال...ويعمل بدأب على "اختراع الأمل"،مجددا، محفزا ذاته وذوات الآخرين على الفعل والتضامن الإنساني/المواطني في شتى المجالات من أجل تجديد وديمومة الحياة/العالم،وتجاوز "الجوائر"الملعونة وما تنتجه من "جوائح" مدمرة للإنسان والطبيعة والبيئة...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern