اطلالة على العالم الجديد

أجمع الكثيرون ممن ينطبق عليهم وصف "المفكرين الرؤيويين" منذ وقت مبكر على أن عالما جديدا قيد التشكل...وكنا قد تحدثنا في مقالين سابقين ( 30 مايو و6 يونيو الماضيين وقطع الحديث تناولنا للمسألة العنصرية في أمريكا) إلى ضرورة تلمس مساره ومستقبله...

بداية نشير إلى أن رؤى هؤلاء المفكرين(أو من أطلقت عليهم التيار النقدي ما بعد الجديد) تتأكد أكثر فأكثر مع التنامي المطرد في استخدام تقنيات التواصل الاجتماعي من جهة. وتفاقم تداعيات جائحة "الكورونا" من جهة أخرى...كيف؟

بداية، أثبت الواقع في العموم كيف أن "النموذج/النسق العالمي الراهن؛ يعيش الآن الطور الأخير من عمره، ويعبر، بالتأكيد، مرحلة انتقال مؤكدة إلى مستقبل آخر"؛ ــ بحسب العالم الكبير "إيمانويل والرشتاين"(1930 ــ 2019، الذي شغل منصب رئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع وصاحب المرجع المعتبر عن تاريخ النظام العالمي)...وقبل أن نطرح ملامح المستقبل الآخر، لابد لنا من القاء الضوء عن النسق/النموذج القديم...

تشكل النسق الحالي(القديم الذي ينازع من أجل الاستمرار)عقب الثورة الفرنسية في 1789 وفقالمبادئ التالية: "الحرية والإخاء والمساواة". وظلت الدول والمجتمعات في حالة من الصراع والصراع المضاد على مدى مائتي عاما في محاولة بلوغ أهداف الثورة الفرنسية التاريخية الثلاثة أو الحيلولة دون تطبيقها. وتراوحت الدول والمجتمعات في تطبيقها لهذه المبادئ. ويشير الحصاد النهائي في الأخذ بنسق الثورة الفرنسية إلى أنه لم يؤت بالثمار التي تطلعت إليها البشرية. وبالطبع لم يكن العيب في قيم ومبادئ الثورة بقدر ما كان العيب في أصحاب المصالح والامتيازات، وهم القلة، الذين احتكروا المنح والمنع للغالبية من المواطنين. ويرصد المؤرخون النقديون كيف أن هذا النموذج أو النسق قد تعرض لانهيارين كبيرين هما:

أولا: انهيار حائط برلين في 1989، أي بعد مائتي سنة من انطلاق الثورة الفرنسية.

وثانيا: انهيار وول ستريت (كنموذج لمركز الاقتصاد العالمي) بعد 10 سنوات من الانهيار الأول.

وهما الانهياران اللذان فسرهما الكثيرون من المفكرين الرؤيويين في كتاباتهم إلى أنهما يشيران إلى نهاية النسق التاريخي للثورة الفرنسية بطبعتيه: الأولى الرأسمالية الاحتكارية. والثانية الاشتراكية البيروقراطية...ونتيجة لهذين الانهيارين الكبيرين فقد المواطنون ثقتهما في النموذج/النسق التاريخي القائم بل والتيقن من الاخفاق التاريخي له من خلال وسائطه المعتمدة. ما دفع مواطنو الكوكب إلى البحث عن بديل أو نموذج/نسق جديد...وبالفعل تحول هؤلاء المواطنين إلى اتخاذ مسارات أخرى متنوعة في الحياة نحو ما يلي: أولا:الانخراط في الحركات المواطنية القاعدية الحقوقية والاحتجاجية والخضراء. وثانيا: العزوف المدني والسياسي والثقافي. وثالثا: تشكيل جماعات العنف والإرهاب والفاشية.

إلا أن ميلاد الانترنت وتأسيس ما أطلقت عليه انطلاقة "زمن جوجل" ــ في منتصف التسعينيات ما بين الانهيارين ــقد أتاح للفئات الثلاث سابقة الذكر الحراك الحر دون تدخل من أصحاب الامتيازات في النسق الآخذ في الانهيار والذين ثبت اخفاقهم. ذلك لأن الاختراع الجديد قد اتسم بغيبة كل من:

أولا: الوصاية...وثانيا: الوساطة...وثالثا: النمطية والقولبة.

أي وجد الإنسان/المواطن نفسه متحررامن كل ما عانى منه في النموذج/النسق القديم بشتى مستوياته: الاقتصادية، والسياسية، والمدنية، والاجتماعية، والثقافية...

بلغة أخرى، أصبح الإنسان/المواطن يمتلك "ذاتا": فاعلة، حرة، مبدعة، دائمة التطور...وذلك من دون المرور بأية وسائط، وبلا توجيهات فوقية، ووفق ديناميات تعليمية متجددة...

فالإنترنت بحسب أحد العلماء الألمان "ليست آلة ملموسة، ليست اختراعا يمكننا تحسسه باليد. لكنه، وعلى رغم هذا، كما أنه يخضع لعملية مركبة من التغيرات دائما، ففي كل ثانية تمر تزداد الإنترنت اتساعا وتغدو أكثر تشعبا.

وتتوفر الإنترنت على طاقات تمكنها من أن تُسفر عن تقدم عظيم من ناحية. وعن ضرر فادح من ناحية أخرى"...وبهذا المعنى استطاع استيعاب الكتل: المواطنية، والعازفة، والمدمرة...وهكذا، سرعان ما تحول العالم الافتراضي إلى عالم حقيقي وحي وشرعي...وتم توظيفه كآلية أساسية عقب الجائحة الفيروسية...ليس فقط لأن الصحة العامة للمواطنين تستوجب عدم التواصل المباشر بين المواطنين، فكان "الأونلاين" هو الحل. وإنما أيضا لأن الأخذ بالتقنيات الرقمية والعلمية والتكنولوجية من شأنه تعويض إخفاقات النسق القديم: أولا: الاقتصادية والتي تتجلى في التفاوتات غير المسبوقة في تاريخ العالم. ثانيا:السياسية بتطبيقيها الغربي والشرقي في عدم توسيع نطاق الشراكة الفاعلة والحقيقيةللمواطنين. ثالثا: العلميةفي حماية الوجود الإنساني من الجوائح والأوبئة والأمراض الناجمة عن اقتصاد غير أخضر من جهة، وتأمين الطبيعة والبيئة من استباحة الانهاك والانضاب الرأسمالي من جهة أخرى نظرا لتبعية المعمل لحسابات المكسب والخسارة. رابعا: الثقافية/الروحيةفي مواجهة المروق الإرهابي وصدام الحضارات والثقافات والأديان...

في ضوء ما سبق من خلفية تاريخية للنموذج القائم وما طاله من انهيارات واخفاقات يمكن أن نرصد التوقعات التالية: أولا: دخول العالم إلى مرحلة ممتدة من الانكماش ستؤدي ــ بحسب المفكرين ــ إلى كشف حدة ما آل إليه النموذج/النسق العالمي الراهن من تصدع. ثانيا: أي محاولة لترميم التصدع ستحتاج إلى "استثمارات انتاجية معتبرة" لتعويض الخسائر الفادحة في شتى القطاعات. وإذا ما نجح هذا الترميم فإنه سوف يحقق نجاحا محدودا حيث لن يزيد عن نطاق دول الشمال حيث يقابله تهميشا ضخما للجنوب. ثالثا: ستفرض "المآزق البيئية والجوائح الفيروسية ضغوطا هائلة لإقامة منظومات حمائية صحية وبيئية على السواء في كل أنحاء العالم. رابعا: إعادة النظر في الكثير من البنى المؤسسية لمواكبة زمن وجيل وجمهور جوجل...

في هذا السياق، سوف يتشكل النموذج/النسق الجديد...نسق: يتيح أكبر قدر من "الشراكة" للجميع، ويضمن تحقيق صيغة عادلة لتوزيع الموارد العامة على الجميع، ويؤمن بيئة وطبيعة وصحة آمنة...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern