«تاريخية المسألة الزراعية المصرية»
منذ نهاية الثلاثينيات من القرن الماضى، تبين مدى قسوة الظروف التى يعيشها الفلاحون فى مصر. ما دفع النخبة الثقافية والسياسية إلى الاهتمام بما عُرف: «بالمسألة الزراعية أو الفلاحية فى مصر». حيث تنافست القوى الليبرالية واليسارية- على السواء- فى دراستها مع تفاقم المسألة الاجتماعية بنهاية الحرب العالمية الثانية. فشهدنا فى الأربعينيات معالجة «جماعة الغد» (الليبرالية). للمسألة الزراعية (إبراهيم بيومى مدكور وميريت غالى وغيرهما).
كذلك العمل الرائد للمؤرخ الكبير اليسارى أحمد صادق سعد: «مشكلة الفلاح»، وفى نهاية الخمسينيات، صدر العمل المرجعى للأستاذ إبراهيم عامر: «الأرض والفلاح: المسألة الزراعية فى مصر»، حيث اجتهدت هذه الأعمال وغيرها فى مقاربة وضعية الطبقة الفلاحية المصرية التى تشكل عناصرها قاعدة اجتماعية ممتدة فى مصر المحروسة. ومثلت بنية علمية ومعرفية وجهت أعمال ومواقف أجيال متعاقبة من المفكرين والباحثين والسياسيين مثل: رؤوف عباس، ومحمود عبدالفضيل، ومحمود عودة، وفتحى عبدالفتاح، ومحمد أبومندور، وعريان نصيف، ولا ننسى، مد الله فى أعمارهم، فى هذا المقام، محمد رياض، وعاصم الدسوقى، وأحمد زايد، و.. كذلك كل خبراء الزراعة والرى المصريين.
(2)
«صقر النور.. مراجعة شاملة للفلاح والأرض فى مصر»
وامتدادا لهذا المسار الإبداعى يقدم لنا «صقر عبدالصادق هلال النور» الصعيدى/ الفرنكفونى الذى حصل على الدكتوراة (2013) من جامعة باريس عن أطروحته المعنونة: «الأرض والفلاح والمستثمر: دراسة فى المسألة الزراعية والفلاحية فى مصر» (صدرت عن دار المرايا- 2017).. وقد تميزت بالآتى: أولا: مقاربة «المسألة الزراعية المصرية» من منظور مركب تتداخل فيه الحقول المعرفية المتعددة: علم الاجتماع، والاقتصاد، وعلم السياسة، والتاريخ، والبيئة، والزراعة.. إلخ. ثانيا: الاستفادة بعديد المصادر الأجنبية الجديدة التى لم تجد طريقها للترجمة إلى اللغة العربية. بالرغم من أن عقدى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى قد شهدا الكثير من الأعمال المتميزة مثل: «سوسيولوجيا العلاقات الزراعية فى الشرق الأوسط: استمرار الإنتاج العائلى». و«المجتمعات الفلاحية فى العالم الثالث»، وغيرهما.. لقد أبدع «صقر النور»- وفق المناهج الحديثة- فى تناول «المسألة الزراعية» من خلال ضرورة التعاطى مع أربع إشكاليات أساسية- فى آن واحد- كما يلى: أولا: هيكل وديناميكية عملية الإنتاج الزراعى، والتحولات فى علاقات الإنتاج والعمل. ثانيا: مساهمة الزراعة فى التنمية الرأسمالية ككل. ثالثا: السياسات الريفية واستجابة سكان الريف لهذه السياسات. رابعا: الوضعية البيئية وديناميكياتها الراهنة...ويقوم الباحث بتفكيك هذه الإشكاليات ودراسة «عواقبها على الفلاح»، من حيث: «النوع الاجتماعى، والإفقار، والاستحواذ، والعمل، والنظام البيئى الزراعى... إلخ، وذلك فى ظل سياق تجارى (معولم).. وبهذا يحرر الباحث (المسألة الزراعية) من دراستها التقليدية البيروقراطية/التكنوقراطية من كونها مسألة تقنية/ فنية أو اقتصادية محضة.. وعليه بنى أطروحته من خمسة فصول تناولت: أولا: جذور المسائل الزراعية والفلاحية فى مصر، وقت العثمانيين ومحمد على والاحتلال البريطانى، دارسا أرض مصر من حيث: نمط استغلالها، وتركيبها المحصولى، ونظام إدارتها المائية، ونوعية وآليات تملك الراضى.. وعرض ثانيا: لأوضاع الفلاحين والأرض والسلطة فى النصف الثانى من القرن العشرين، وللإصلاحات الزراعية (البرجوازية) وكيفية تحولها لليبرالية الجديدة. كما خصص مبحثا خاصا حول ملامح النظام الإيكولوجى- الزراعى ما بعد السد العالى.. ورصد ثالثا: لواقع الزراعة الفلاحية والفلاحين فى الوادى والدلتا وأثرها على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية على الفلاحين عموما وعلى نساء وأطفال الريف خصوصا. وفى هذا المقام درس ما أطلق عليه (تصدع التبادل المتكافئ بين الإنسان والبيئة فى الوادى والدلتا).. وقام رابعا: بتقييم تجربة استصلاح الأراضى.. وأخيرا اقترح: نموذجا زراعيا مستقبليا بديلا يقوم على التحول من مفهوم الأمن الغذائى إلى السيادة الغذائية.
(3)
«نحو بديل زراعى مستقبلى مستدام وعادل وشامل»
يقول (إبراهيم عامر): (إن جوهر المسألة الزراعية) ليس فقط (حجر الزاوية فى حياة الفلاحين)، وإنما فى حياة (العمال والشعب كله).. وفى (حياة مصر القومية والاقتصادية والاجتماعية) التنموية المستدامة والشاملة: الزراعية والصناعية والتكنولوجية والبيولوجية والبيئية.. بهذا المعنى تأتى أطروحة (صقر النور) الذى يطرح بديلا زراعيا يضمن ليس نجاحا فنيا محضا، وإنما حلا لمسائل العدالة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية ومسألة ديمقراطية الموارد والغذاء.. ونواصل مع سلسال الإبداع.