(1)
إقصاء «المكارثية» واستعلاء «الواسب»
خرجت الولايات المتحدة الأمريكية من الحرب العالمية الثانية (أغسطس 1945) وهى تعتبر نفسها زعيمة للعالم الحر الجديد. وهو ظاهر صدقه كثيرون ممن تعودوا على تصديق الظاهر ــ لسبب أو لآخر ــ ولم يتعلموا أن يبحثوا عن باطنه.
فسرعان ما انكشفت «أمريكا الأخرى»: «الإقصائية» «الاستعلائية».. فبحلول عقد الخمسينيات من القرن الماضى وجد العالم حلم الحرية وقد تحول إلى كابوس «الإقصاء والاستعلاء»؛ بفعل أمرين هما: أولا: المكارثية؛ نسبة إلى النائب الجمهورى فى مجلس الشيوخ الأمريكى (لمدة 10 سنوات من 1947 إلى 1957 عن ولاية «ويسكونسن») «جوزيف مكارثى» (1908 ـ 1957) وهى الحملة العدائية التى استهدفت المعارضين للسياسات السائدة من سياسيين ومثقفين وأدباء وفنانين بحجة أنهم يساريون تم تجنيدهم من قبل الاتحاد السوفيتى.. وثانيا: إقصائية الـ(واسبWASP) أو الـWhite Anglo Saxon Protestant، أو النخبة البيضاء البروتستانتية من أصل أنجلو سكسونى والتى ترى نفسها نخبة نقية يجب ألا يلوث هؤلاء الملونون عالمهم الجديد (ما تجلى فى قوانين وأعراف تمنع السود من الاختلاط بالبيض، والتمتع بالحقوق المدنية).. وما بين «الإقصاء» و«الاستعلاء» كانت «أمريكا الأخرى»: السوداء؛ تمارس «النضال الأسود» ضد العبودية: القديمة (الصلبة)، والجديدة (الناعمة).
(2)
حافلة مونتجمرى تنطلق بالسود
وقبل أن ينتهى عام 1955 حدث ما لم يكن فى الحسبان، أو كما ذكر المؤرخ «هوارد زين» (1922 ــ 2010) فى مؤلفة المرجعى «تاريخ شعب الولايات المتحدة الأمريكية» ما نصه: «كانت الثورة حاضرة للانطلاق دائما، وعلى بعد دقائق فقط، دونما تحديد لموعد انطلاقها من قبل أى أحد».. فلقد كان الوضع المجتمعى من الاحتقان ما يجعل المجتمع الأمريكى مفتوحا على كل السيناريوهات.. وبالفعل وجدنا السيدة «روزا باركس» التى كانت تعمل بصناعة الملابس التى يلبسها البيض تقرر التمرد والاحتجاج على معاناتها المركبة كونها: فقيرة، وامرأة، وسوداء فى آن واحد، وذلك بكسر القانون الذى يقضى بعدم اختلاط السود بالبيض فى وسائل النقل والأماكن العامة (والمعروف بقانون مونتجمرى ــ ولاية ألاباما). لذا ما إن وجدت مقعدا شاغرا فى المنطقة المخصصة للبيض تجلس فيه بعد نهاية يوم عمل مجهد. ثارت السيدة المتعبة على قانون مجحف لا منطق له. ما عرضها للإهانة والقبض عليها وإيداعها السجن. وقد جسد احتجاج السيدة روزا معاناة السود فى أمريكا على مدى قرون (كما أوضحنا فى الحلقتين السابقتين: أمريكا الأخرى والنضال الأسود). وكيف أن هناك أمريكا أخرى ذات بنية مغايرة كابوسية غير أمريكا الحلم الظاهر.. لقد أطلقت السيدة باركس (43 عاما آنذاك) العنان لحلم الحرية والمساواة من خلال التنظيم المدنى الواسع دفاعا عن ثلاثة حقوق أساسية هى: أولا: الحقوق المدنية. ثانيا: الشراكة السياسية من خلال حق التصويت السياسى. ثالثا: الاستفادة من الخدمات العامة شأنهم شأن الآخرين وبخاصة فى مجال التعليم عموما والعالى خصوصا.. وبالفعل حرمت المحكمة الدستورية العليا فى نوفمبر من عام 1956 الفصل بين البيض والسود فى وسائل المواصلات. هكذا أسست «حافلة مونتجمرى» لحركة الحقوق المدنية الأمريكية منذ منتصف الخمسينيات وعلى امتداد عقد الستينيات.. وصارت نموذجا يحتذى وإلهاما فكريا وثقافيا وفنيا وأدبيا وموسيقيا ودينيا للتحرر والمساواة وللكرامة الإنسانية.
(3)
نعم أسود ولكن: لست مملوكًا لأحد
منحت الستينيات «ولادة جديدة لأمريكا»؛ جعلت التصدع الكامن منذ الحرب الأهلية مكشوفا. ومن ثم ضرورة العمل على مواجهته. وبالفعل أدت حركة الحقوق المدنية والتعبئة السياسية والمدنية الراديكالية المكثفة والتى امتدت إلى كل الولايات الأمريكية إلى تمرير قانون الحقوق المدنية فى 1968. وبالرغم من أن القانون حمل تغليظا عقوبيا على أولئك الذين يحرمون المواطنين من حقوقهم المدنية. إلا أنه نص على «ألا تنطبق مواد هذا القانون على المسؤولين المنوط بهم تنفيذه إذا ما قاموا بتنفيذه أو غفلوا عن ذلك وكذلك لا تنطبق على أعضاء الحرس الوطنى الذين يشتركون فى قمع مظاهرة أو إنهاء شغب مدنى...».. صحيح أن القانون عُد نقلة تاريخية آنذاك حررت «سود» أمريكا من العبودية التاريخية الصلبة، فصاروا غير «مملوكين لأحد» بحسب ما عبر عنه الروائى والشاعر والكاتب السياسى ــ الأسود ــ جيمس بالدوين (1924 ـ 1987).. ولكن ليس من العبودية الناعمة التى بقيت ممتدة حتى «خنق فلويد».. كيف؟.. نواصل