(1)
أمريكا: الحلم والكابوس
فجر قتل «جورج فلويد» قبل أسبوعين فى ولاية مينوسوتا الأمريكية مخزون العلاقة الشائكة بين البيض والسود فى الولايات المتحدة الأمريكية. فلقد جسد التكوين التشكيلى لمشهد القتل كل مشاعر وممارسات الكراهية الاستعلائية البيضاء التى حملتها كتلة من البيض تجاه السود منذ وصول طلائعهم إلى أرض الميعاد أو الأحلام فى سنة 1619 إلى ولاية فرجينيا أو التى توصف فى الأدبيات «بالمستعمرة الملكية الأولى».
وصلوا «كعبيد» ليكونوا فى خدمة ما عُرف تاريخيا بالـ «واسب» أو “WASP”: White Anglo Saxon Protestant؛ هؤلاء المتشددين دينيا أو «البيوريتانيين»: الطُهريين؛ الذين هُجروا من إنجلترا نتيجة تشددهم ومفاهيمهم المغلوطة التوراتية. وكيف أنهم مختارون من الله وموعودون بأرض ميعاد جديدة هى «نيو إنجلند» أو أمريكا. وكان ذلك على حساب «السكان الأصليين» وبتسخير العبيد السود الذين تم استجلابهم لخدمة هؤلاء المختارين. وهكذا نشأ المجتمع الأمريكى الجديد على صيغة تداخلت فيها العناصر الاقتصادية والسياسية والثقافية فى آن واحد.. فهو المجتمع «الحلم» لدى هؤلاء المتشددين البيض الذين يسيطرون على الثروة. ومجتمع «كابوس» للعبيد المحرومين من كل شىء.. بلغة أخرى أصبح لدينا - منذ هذا التأسيس الجديد - أمريكا وأمريكا أخرى.. (درسنا ذلك تفصيلا فى كتابنا الإمبراطورية الأمريكية: ثلاثية الثروة والدين والقوة ــ2003، وجار إعداد طبعة جديدة مزيدة).
(2)
أمريكا: الحرية والعبودية
قليلون لا ينتبهون إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد تأسست وفق بنية «استعمارية» تعطى الحق للبعض (البيض) فى أن يمتلكوا ويتاجروا فى العبيد ليقوموا بكل المهام المتدنية. أخذا فى الاعتبار الإنكار المطلق لأى حقوق لهم، ليس السياسية والمدنية والاقتصادية فقط، وإنما قبلها الشخصية أو الحياتية البديهية. ومن ثم باتت هذه القضية حقوق السود (أو حقوق العبيد) أحد «الندوب» الغائرة فى الجسم الأمريكى الوليد. ومنذ الاستقلال الأمريكى فى 1776، صارت قضيتا: التحرر من العبودية من جانب، وتحرر السود -تحديدا -من جانب آخر، قضيتين مصيريتين لم تحلا بالتمام حتى يومنا هذا أى منذ ما يقرب من 250 سنة. وينبهنا المؤرخ الأمريكى الكبير «هوارد زن» (1922 -2010)، صاحب المؤلف الأشهر: تاريخ شعب الولايات المتحدة الأمريكية الذى احتفل ببيع أكثر من مليون نسخة منه فى مطلع القرن الحالى كما صدر عنها عشرات الطبعات)- إلى أنه لا يمكن فهم تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية إلا عن طريق «النزاعات المريرة التى دارت فى قاع المجتمع الأمريكى عبر التاريخ». بلغة أخرى، لا يمكن فهم «أمريكا» عن طريق إداراتها السياسية المتعاقبة المتغيرة دوما بين الحزبين الكبيرين. فالداخل الأمريكى أو ما يمكن أن نطلق عليه «أمريكا الأخرى: الكابوس، والعبودية» يعكس وضعا غاية فى التعقيد. وقد يقول قائل ألا تزال أمريكا تعانى العبودية بعد بالرغم من كل النضالات المجتمعية والنصوص الدستورية والفرص التى اُتيحت للسود من أجل المساواة وتأكيدها. يقول «زن»: نعم.. ذلك لأن العرقية/العنصرية ترسخت فى البنية المجتمعية والمؤسسية والثقافية الأمريكية منذ القرن السابع عشر للدرجة التى تحتاج فيها إلى عمل جذرى كبير.. فلقد ساهم التمايز العرقى (الأنجلوسكسونى)، المذهبى (البروتستانتى)، اللونى (الأبيض)، والذى أضيفت إليه القوة المالية والاقتصادية إلى ترسيخ بنية عنصرية فادحة صلبة الآثار والتداعيات عبر التاريخ. ومن ضمن هذه التداعيات أنها تمتد بآثارها الجائرة ليس فقط لتصيب السود وإنما -أيضا -غير السود ممن لا يتوافقون عرقيا مع هذه الإثنية الكارهة، لمن يغايرها، والكريهة بأفعالها التى توظف فيها الكثير من المؤسسات القائمة. ما دفع أحد المؤرخين المعاصرين أن يقول: «إنها الإشكالية التى تجعل عموم الأمريكيين منسيين لصالح الأجندة المالية/الاقتصادية للقلة الإثنية ولو على حساب أمريكا منقسمة».
(3)
أمريكا الأخرى: المساواة الشاملة لم تزل مفقودة
يمكن القول إن السود ومنذ 1776 يحلمون بالحرية عبر تحطيم أبنية العبودية وقوانينها، وبالرغم من الكثير من النجاحات فى هذا المقام إلا أن المساواة العرقية بمعناها الشامل: المباشر والثقافى والطبقى والوطنى لم تتحقق بعد.. لذا كان مشهد الركبة الجاثمة على رقبة جورج فلويد والتى تحول -بدم بارد بيد فى الجيب -دون أن يتنفس، و(الذى لم يتجاوز تسع دقائق)- تجسيدا لمسار تاريخى مؤلم.. نواصل.