عالم فى خطر

(1) من توزيع الثمار إلى توزيع الأخطار.. ما الفرق؟

على مدى الأسبوعين الماضيين، عرضنا لأطروحة رؤيوية مبكرة قدمها، نهاية الثمانينيات/ مطلع التسعينيات، عالم الاجتماع الألمانى أولريش بيك (1944 - 2015) حول الخطر الذى شمل غالبية مواطنى المجتمع، وكيف مارست الطغمة العولمية التى حكمت العالم وفق سياسات الليبرالية الجديدة ما أطلقنا عليه «سلطة الخطر» فى خلق حالة مستمرة من تهديد الإنسان/ المواطن وإخضاعه

.. ومن ثَم تحولت وعود توزيع الثمار إلى وعيد فعلى بتوزيع المخاطر.. وبعد عشرين سنة، وقبل رحيله بعام، أصدر «أولريش بيك» كتابا مهما بعنوان: «عالم فى خطر»...حيث رصد فيه كيف أن الأخطار التى تبلورت فى المجتمعات المحلية والدول الوطنية هنا وهناك قد انتقلت إلى الحلبة العالمية لتصبح أخطارا عابرة للحدود تهدد مستقبل الكوكب ومواطنيه دون تمييز. ومن هذه الأخطار: أولا: الإرهاب الدولى، وثانيا: الأزمة الاقتصادية/المالية، وثالثا: الكوارث المتوقعة: البيئية والطبيعية والحيوية، من جراء عدم القدرة على السيطرة التامة على الموجة الرابعة من الثورة الصناعية التى تقوم على «الأتمتة» «Automation»؛ (استخدام التقنيات الرقمية/ الإلكترونية والذكاء الاصطناعى وتقليل استخدام القوة البشرية)... ما يعنى أن يصبح الخطر حاضرا فى كل مكان فى العالم وليس فى موضع بعينه.

(2) «التوظيف السياسى للخطر»

ومن أهم ما يتطرق إليه «بيك» هو كيف أن طغمة الليبرالية الجديدة قد نجحوا فى جعل الخطر يزحف ليتسلط على قلب حياة الإنسان/المواطن المعاصر وينتهك حريته، ويحول دون تحقيق العدالة والمساواة. ما يمكن من السيطرة السياسية على الجمهور، بدرجة أو أخرى، حتى فى أعتى الدول الديمقراطية فى الغرب. فالأخطار العالمية التى باتت محدقة بالبشرية بفعل طغمة العولمة هى نفسها التى ستبرر السلطوية - بتنويعاتها - لإخفاء إخفاقاتها حيال حياة الإنسان/المواطن المعاصر بشتى أبعادها.. ومن ثم تتم التعمية والتغطية على التداعيات التى تتراكم من الأخطار التى تحل بالعالم تباعا، وتكون بمثابة قنابل موقوتة تنفجر مع الوقت، حيث تشكل كوارث حقيقية «Real Catastrophes» على أرض الواقع. ولعل ردود فعل «ترامب» المتراوحة حيال أزمة «كورونا/ كوفيد - 19» من جهة، وموقفه من أزمة «جورج فلويد» (الشاب الأسود الذى قتل منذ أيام فى ولاية مينيسوتا وأشعل غضب الجموع فى 25 ولاية حتى كتابة المقال) من جهة أخرى، تعكس - بحسب المراقبين - أولا: التعاطى مع الكوارث الحيوية فى إطار التنافس السياسى التقليدى التاريخى بين الحزبين الكبيرين فى أمريكا. ثانيا: استخدام القوة المفرطة تجاه التصدع/ الصراع الاجتماعى والطبقى فى الداخل الأمريكى. ثالثا: الإصرار على أن الحالة الأمريكية الراهنة تعد نموذجا مثاليا يعكس ما يلى: أولا: كيف أن الكوارث تكشف أحوال الواقع المسكوت عنه - لسبب أو لآخر - واقع النظام الصحى الأمريكى من جانب، وواقع العلاقة الانقسامية بين الاستعلائية البيضاء والجمهرة السوداء فى الداخل الأمريكى.. وواقع البطالة فى قوة/ سوق العمل فى الولايات المتحدة الأمريكية.ثانيا: تحويل النظر المتعمد عن هذا الواقع باصطناع معارك وهمية. ثالثا: الإصرار على تسيير الماكينة الاقتصادية والسياسية والدينية كما لو أنه لا توجد أخطار، بعضه تحول إلى كوارث حقيقية بالفعل. وفى المحصلة تبقى معادلة توزيع المخاطر عمليا تحت مظلة توزيع الثمار.

(3) «لا للمجهول المرعب»

ويحذر «بيك» من أن التعايش مع «الأخطار» التى تؤدى فى المحصلة إلى «الكوارث» يعد تعايشا مع المجهول وكأنه قدر لا فكاك منه. أخذا فى الاعتبار أن هذا التعايش سوف تواكبه مشاعر رعب ولا يقين يواكبها، فعليا انكشاف التناقضات السياسية والقيمية، وبروز التناحرات الاجتماعية، وتحقق الاختلالات/التفاوتات الاقتصادية. ما يوصل المجتمعات إلى حد الأزمة المحتدمة. وإذا كانت الموجة الأولى من الحداثة قد روجت لمجتمع المعرفة، وهو التعبير الذى استقبلته الإنسانية فى كل مكان بلطف وشغف، فإن عالم الأخطار الناتجة عن الكوارث بفعل سياسات تخدم القلة هو عالم نقيض للمعرفة: عالم/ مجتمع المجهول.. الأمر الذى يستدعى تجديدا شاملا على جميع الأصعدة.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern