(1)
تشرنوبل: الخطر والعجز
فى إبريل من عام 1986، وقعت كارثة انفجار الوحدة الرابعة من المفاعل النووى فى محطة «تشرنوبل» (التى تقع شمال أوكرانيا بالاتحاد السوفيتى قبل تفكيكه). وشكلت هذه الكارثة حالة من الهلع الكوكبى، ليس فقط بسبب ما يحدثه التلوث الإشعاعى من تدمير للإنسان والطبيعة. ولكن لأن الانفجار قد كشف عن أن إنسان/ مواطن هذا العصر هو معرض للخطر.
وأن وعود: الرفاه والاستقرار والأمان التى وعدت بها الإنسانية عقب الحرب العالمية الثانية- ناهيك عن أنها لم تتحقق إلا للقلة- باتت عرضة للضياع فى أى وقت دون أى قدرة على المقاومة الحقيقية من قبل المواطن/ الإنسان وحكومته فى أى مكان على ظهر الكوكب. والأهم هو تبلور حقيقة مؤلمة خلاصتها أن: «هناك خطرا دائما محدقا بالإنسان/ المواطن فى كل مكان يعطل كل منظومات الحماية التى بنتها الإنسانية على مدى العصور. وأنه مهما تضاعفت المعرفة العلمية ونمت القوة المالية وتزايدت القدرة البشرية فإن كل ما سبق يظل عاجزا أمام الخطر الكارثى»
(2)
سلطة الخطر
أدى العجز أمام الكارثة النووية إلى الخضوع إلى «سلطة الخطر»- بحسب تعبير العالم الاجتماعى أولريش بيك (1944- 2015) فى كتابه المبكر «مجتمع المخاطرة» (1986)... يقدم لنا «بيك» فى هذا الكتاب شرحا دقيقا للأزمة الوجودية التى يتعرض لها المواطن/ الإنسان عند الخطر. ففى اللحظة التى يظن فيها أنه محصن تماما نجده عاريا من كل ما يحميه. ويصبح الجميع- دون تمييز أو استثناء- يعانون محنة تشتبك/ تتناقض فيها، بحسب «بيك»، «مقتضيات البقاء على قيد الحياة وضرورة الاعتراف بالخطر»... فالعالم الذى تصورناه أمنا لم يكن كذلك. كما أن تلك المفاعلات تمثل تهديدا حقيقيا على استمرار الحياة على ظهر الكوكب بتلوث كل ما يدب عليه من كائنات وما يجرى فيه من أنهار وبحار ويسرى فيه من هواء... ما يعنى أن «تستبد سلطة الخطر» بالإنسان... ويبقى السؤال: هل سلطة الخطر تستبد بالإنسان فقط؟... أم تتجاوزه إلى ما هو خارجه؟...
(3)
فى البدء كان خطر النظام الصناعى
كشفت دراسة «بيك» وغيره ممن عنوا بدراسة العالم وديناميكياته عن أمرين هما: أولا: حقيقة العالم الذى تعيشه الإنسانية. ثانيا: انتهازية النظام الاقتصادى تجاه: الإنسان، والطبيعة، والبيئة، والمجتمع... نعم كان هذا الكشف يتعلق بالنظام الصناعى- آنذاك- إلا أن هذه الفكرة تظل صالحة للتطبيق على تجليات النظام الاقتصادى اللاحقة. وهو ما أكده «أولريش بيك» فى كتابه الصادر منذ خمسة أعوام «عالم فى خطر» (2015) حول الكوارث البيئية والطبيعية التى ستلحق بالبشرية بفعل جور النظام الاقتصادى ما بعد الصناعى (أو ما يُعرف فى الكتابات بالثورة الصناعية الرابعة. وهو ما سنفصله فى مقال قادم لاحقا)... وبالعودة إلى جوهر ما كشفت عنه كارثة «تشرنوبل» حول «النظام الصناعى» نشير إلى انتهازية هذا النظام فى استباحة انتهاك الطبيعة، وانضباب البيئة وضمها لتكون- بالتمام- تابعة- كليا- للتنافس الصناعى ومتطلبات السوق. وبالرغم من استباحة النظام الصناعى للطبيعة والبيئة وحصده لعوائد مهولة وتأمينه لفوائض مذهلة صبت لصالح القلة الصناعية/السوقية، إلا أن هذا النظام الصناعى لم يُعْنَ بتوفير النظم الحمائية الكافية للإنسانية. ما جعل التهديدات حاضرة كل الوقت تصيب كل ما هو حيوى: الهواء والمياه والغذاء والملابس، أو بلغة أخرى كل ما يمس حياة الإنسان اليومية فى الصميم...
(4)
من كارثة إلى أخرى
المحصلة أن بات «الخطر» فعلا متسلطا على الإنسان/ المواطن. ما كشف عن كثير من الاختلالات والإخفاقات مما يتعلق بحقوق واستحقاقات الإنسان/ المواطن المعاصر. كما أكد أن العجلة الصناعية الدائرة غير معنية إلا بتحفيز حركة السوق العالمية. ومن ثم تعظيم الربح للقلة. كذلك غير مسموح لها بالتوقف لأى سبب مهما كانت الأخطار ومهما حلت كوارث... وهو ما تأكد بعد كارثة تشرنوبل والتحول إلى النظام ما بعد الصناعى وحلول كارثتى: وول ستريت 2008 وكورونا 2019 على التوالى.. وتبين مدى فداحة ما تتعرض له البشرية. نواصل...