إنسانيتنا قَدرُنا المشترك...

مثلما استنفرت "الكورونا" الفرق الطبية والبحثية الدوائية في كل أنحاء العالم من أجل الوقاية والعلاج من "فيروس مستجد" يتمدد هنا وهناك. فإنها استنفرت أهل الفلسفة والسياسة وعلم النفس والإعلام،...،إلخ، في محاولة لقراءة تداعيات "فيروس الكورونا المستجد" على الإنسانية...

وفي مقدمة من أدلوا بدلوهم خلال الأسابيع الماضية نشير إلى كل من: الفيلسوف الفرنسي "إدجار موران"، والفيلسوفة الأمركية "جوديثبتلر"، والفيلسوف السلوفيني "سلافويجيجك"،والكاتبة الصحفية البارزة "ناعومي كلاين"، وغيرهم، ممن يصنفون في الأدبيات الفكرية "بالمفكرين النقديين". والذين طالما قدموا مقاربات تحليلية للحياة الإنسانية المعاصرة: تفسيرية، وتحذيرية، واستشرافية معتبرة...وكلها تنم عن متابعة دقيقة "مجهرية" لتاريخ وحاضر ومستقبل أحوال العالم والبشرية...ولصعوبة أن نلخص ما قاله هؤلاء المفكرين النقديين، وغيرهم، سوف نقدم خلاصة ما قال كل واحد منفردا لأهمية ما طرحوه من أفكار راديكالية في لحظة تاريخية فارقة وصفها أحدهم (في النيويورك تايمز) بأنه سيؤرخ لها باعتبارها لحظة فاصلة بين زمنين كما يلي: زمن "قبل كورونا" وزمن بعد كورونا". انطلاقا من أن "اليوم التالي" للانتصار الإنساني على "الكورونا" ــ إنشاء الله ــ سوف يكون زمنا جديدا على جميع الأصعدة ومن جميع الأوجه...فالزمن الذي حلت فيه "الكورونا" وتعرضت في سياقه إلى تهديدات جسيمة لا يجب أن يستمر. ومن ثم لابد من تأسيس زمن جديد أكثر حصانة على المستوى الإنساني.

في هذا الإطار، نلقي الضوء على مساهمة الفيلسوف والعالم الاجتماعي الفرنسي "إدجار موران" (1921). التي أطل بها على العالم من خلال مقابلة أجريت معه منذ ايام(ونقلها إلى العربية الحسن مصباح)، حيث تناول فيها النقاط التالية:

أولا: خلاصة ما أوصلتنا إليه العولمة؛حيث يقول: "كشفت لنا الأزمة أن العولمة هي اعتماد متبادل دون تضامن. فلقد أنتجت حركة العولمة ــ يقينا ــ التوحيد التقني والاقتصادي للكوكب، لكنها لم تعزز التفاهم بين الشعوب"...

ثانيا: وعن لماذا وكيف أوصلتنا العولمة إلى "اللاتضامن" و "اللاتفاهم"؛ يفصل "موران" بقوله: "منذ بداية العولمة في التسعينات، اشتعلت الحروب والأزمات المالية. وقد خلقت مخاطر الكواكب -البيئة والأسلحة النووية والاقتصاد غير المنظم- مصيرًا مشتركًا للبشر، لكن البشر لم يدركوا ذلك.

ثالثا: وعن دور فيروس كورونا المستجد وعلاقته بهذا الواقع العولمي البائس؛يجيب الفيلسوف الشيخ: "أنار الفيروس هذا المصير المشترك بشكل فوري ومأساوي"...

وقبل أن ننتقل إلى رابعا"، نشير إلى أطروحة "موران" البالغة الأهمية التي صدرت عام 2007 بعنوان "إلى أين يسير العالم؟"؛ والتي قدم فيها تحذيرا مبكرا عن مستقبل العالم في ظل ما أطلق عليه: "العصر الحديدي الكوكبي". فبالرغم من التقدم التقني غير المسبوق إلا ان الإنسانية لم تتحرر بعد. كما أن هناك من القوى ما لا تزال تؤمن بأن الهيمنة والإخضاع للمغايرين هي سُنة تاريخية. ولكن، تنسى هذه القوى دروس التاريخ التي تُجمععلى أن التمادي في الهيمنة والإخضاع إنما يحمل "طبيعة احتضارية" لأنه يؤمن الحياة لهذه القوى على حساب الآخرين. وهو أمر لا تستقيم معه الحياة.لذا عند حدوث الكارثة التي لا تفرق بين أحدتتخلخل/تتحلل الأبنية المختلفة: الاقتصادية، والسياسية، والدينية، والثقافية، والاجتماعية. وينكشف المستور...ويشدد "موران" على ضرورة وقف ما أطلق عليه: "الموت الكبير"...حيث القوي لا يرى إلا قوته ومصالحه. ومن ثم يجر العالم لحروب ومغامرات تصيب الكوكب بإضعاف المقاومة، وإنضاب الموارد، لصالح القلة. ما يؤدي إلى الموت...

إن إيقاف الموت الكبير، بحسب "موران"، يحتاج إلى: "النضال ضد الظلم الإنساني الكبير". والتنبيه إلا أن هذا الظلم إنما يعني عمليا "العَدمْ المتبادل"...وعليه لابد من "إيقاظ الإنسانية"...أخذا في الاعتبار أن الإنسانية ’’ليست فكرة مثالية، إنما قدرا مشتركا‘‘...

ونعود من قراءتنا للأفكار التي تضمنتها أطروحة "إلى أين يسير العالم؟"؛ لإطلالة "موران" الحوارية منذ أيام وننتقل إلى النقطة الحوارية الرابعة كما يلي:

رابعا: وعن تجديد فكرته عن "التضامن الإنساني"؛يقول "موران":"يجب أن نستعيد التضامن الوطني، غير المنغلق والأناني، بل المنفتح على المصير(القدر) المشترك...قبل ظهور الفيروس، كان لدى البشر من جميع القارات نفس المشاكل: تدهور المحيط الحيوي، انتشار الأسلحة النووية، والاقتصاد غير المنظم الذي يزيد من عدم المساواة…المصير المشترك موجود، ولكن بما أن العقول خائفة، بدلاً من أن تدرك ذلك، فإنها تلجأ إلى الأنانية الوطنية أو الدينية(العرقية، والاقتصادية). بالطبع، التضامن الوطني ضروري، ولكن إذا لم نفهم أننا بحاجة إلى وعي مشترك بمصير الإنسانفإن أزمة الإنسانية ستسوء أكثر...رسالة الفيروس واضحة. ويل لنا إذا كنا لا نريد سماعها"...

خامسا: وحتى يمكن إدراك مضمون هذه الرسالة؛يلفت "موران" النظر إلى ضرورة اغتنام فترة "الحجز" أو العزلة الاختيارية في حياة الإنسانية "زمن الكورونا". واعتبارها فرصة تاريخية "نستعيد ذواتنا، وندرك ما هي احتياجاتنا الأساسية، أي الحب والصداقة والحنان والتضامن وشعرية الحياة …الحجز يمكن أن يساعدنا على البدء في تطهير طريقة حياتنا، وفهم أن العيش بشكل جيد هو تحقيق احتياجات’’الأنا‘‘ولكن ــ دائمًا ـ في إطار ’’النحن‘‘...وما يخبرنا به "فيروس كورونا" بقوة، هو أن البشرية كلها يجب أن تبحث عن مسار جديد: يتخلى عن العقيدة النيوليبرالية. ويحمي ويعزز الخدمات العامة مثل المستشفيات التي عانت من تخفيضات مجنونة في أوروبا لسنوات. ويصوب آثار العولمة من خلال إنشاء مناطق متحررة من العولمة"...

يحتم علينا الخطر الداهم الذي تتعرض له البشرية اليوم أن ندرك ألا نستسلم وندرك مضمون رسالة الكورونا بأنها تؤكد على قيمة "الإنسانية: القدر المشترك"...ونتابع أفكار أخرى...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern