مستقبلنا المشترك

"الكوكب بات في خطر"؛


هذه المقولة، هي خلاصة ما توصل إليه المعنيون بالوضعية التنموية للإنسانية من خلال مؤتمرات متعاقبة بدأت منذ سبعينيات القرن الماضي...سعى فيها المؤتمرون للإجابة عن الأسئلة التالية:

أولا: لماذا وصلنا إلى هذا الحد؟...ثانيا: وماذا علينا أن نفعل؟...ثالثا: وكيف؟...

وكانت الإجابة المتكررة، "المنقحة"، بفعل التقدم في دراسة كل ما يتعلق بالإنسان في علاقته بالمجتمع والبيئة، هي أنه من "جراء الاستنزاف الجنوني للموارد الطبيعية. والاصرار على استخدام تقنيات صناعية ضارة بالبيئة تنذر بكوارث حقيقية. ونتيجة إلى أن هناك كتلة سكانية تعيش تحت خط الفقر وفي ظروف غير آدمية وتعاني الأوبئة والأمراض"...فإن هناك خطرا حقيقيا في إمكانية "استمرارية المجتمع الدولي"“Sustainability of Global society”، بحسب ما جاء في ’’وثيقة الأرض‘‘عام 2000.

وحول هذه الخلاصة، تعددت النقاشات وتنوعت الاجتهادات في عديد المجالات. وذلك في محاولة لوضع تصور متكامل لتنمية الجنس البشري تنمية مركبة تتسم بالديمومة للأزمنة التالية والفاعلية للأجيال القادمة. وتولد لدى المؤتمرون ــ من خبراء وسياسيين وأكاديميين ــ"يقين"، هو استحالة التعاطي مع المشاكل المستفحلة على كوكب الأرض سواء في الدول التي تصنف غنية أو فقيرة، كل على حدة بمعزل عن بعضها البعض. فزمن الخطط الموازية قد ولى. وعليه لا يمكن حل قضية الفقر دون الأخذ في الاعتبار ضمان حماية الأرض بما تضم من موارد طبيعية. ولا يمكن الحديث عن حياة صحية بغير هواء نقي وبيئة غير ملوثة وزراعة آمنة،...،إلخ.

وقد جاء تقرير اللجنة العالمية للبيئة والتنمية الصادر نهاية الثمانينيات تحت عنوان:"مستقبلنا المشترك"؛ مؤكدا على ضرورة الالتزام الإنساني من قبل: الحكومات، والاقتصاديين، والمواطنين على جعل "التنمية المستدامة حالة ملزمة" للإنسانية ومستقبلها. خاصة، بحسب ما تأكد في هذا التقرير الشامل، أن أحوال الكوكب لم تعد تنتظر وأن الأخطار تحيط بالإنسانية من جوانب عدة. وكما جاء في الخلاصة: "إن الوقت قد حان للمزاوجة بين الاقتصاد والعلاقة بين الناس والبيئة لكي تتحمل الحكومات والشعوب مسئولياتها لا نحو الخراب البيئي فحسب، وإنما أيضا نحو السياسات التي تؤدي إلى هذا الخراب. وبعض هذه السياسات يهدد استمرار بقاء الجنس البشري فوق الأرض، ولكن بالإمكان تغيير السياسات، ومن ثم فإننا جميعا مدعوون لأن نبدأ من الآن"...

إن ما أكد عليه المجتمع الدولي منذ ثلاثة عقود، يعاد طرحه مجددا على نطاق واسع في كل أنحاء المعمورة بعد هذا "التمدد الفيروسي" ــ سواء تسمى باسمه الشائع الكورونا أو العلمي كوفيد 19 ــ الذي داهم الكوكب: بدوله وطبقاته. وأقصد، تحديدا، "المسئولية المشتركة" بين الجميع...

لقد عكست ردود الفعل الحكومية والمالية والمواطنية في شتى أنحاء العالم أننا أمام إشكالية كبرى تتجاوز قضية المواجهة المباشرة للفيروس المتمدد إلى ما هو أكثر من ذلك...خاصة أن المتابع "لأحوال العالم" بأبعادها المختلفة يعرف أن منظمة الصحة العالمية قد حظرت مطلع 2019 من 10 أخطار تهدد الصحة العالمية سوف يكن لها تداعيات خطيرة على البشرية وذلك كما يلي: أولا: تلوث الهواء والتغيرات المناخية. ثانيا: الأمراض الصامتة مثل السكر. ثالثا: وباء الإنفلونزا العالمي “Global Influenza Pandemic”. رابعا: السكن في بيئات غير صحية. خامسا: ضعف المقاومة للميكروبات. سادسا: وباء الإيبولا. سابعا: ضعف الرعاية الصحية الأولية. ثامنا: عدم فاعلية اللقاحات والأمصال في بعض الحالات. تاسعا: ناموسة الدنج التي تسبب أعراض الإنفلونزا.عاشرا: الإيدز...يتضح أن وباء الإنفلونزا هو الخطر الذي وصف تحديدا "بالوباء العالمي"...إذن ما طبيعة هذه الإشكالية التي كشف عنها "التمدد الفيروسي"...

يمكن أن نشير إلى عدة أمور من مجمل متابعتنا لكثير من التعليقات التي وردت في التغطيات الاستثنائية المطولة للدوريات العالمية المعتبرة...أولها: لم يستثن التمدد الفيروسي دولة من الدول غنية أو متوسطة أو فقيرة. كما لم يفرق بين طبقة عليا أو متوسطة أو دنيا...ثانيها:أن الجميع بات تحت التهديد لا فرق بين أحد. ثالثها: ارتباك السياسات الحكومية وتراوحها في كيفية مواجهة تمدد الفيروس. رابعها: السقوط الأخلاقي من خلال التنافس بالمنطق الاقتصادي المحض في محاولة احتكار علاج الفيروس من قبل البعض.وتكالب البعض من القلة المالية على شراء أسهم في شركات تقوم بتصنيع المصل. خامسها: قصور السياسات الصحية حتى في الدول الغنية. سادسها: ضعف المؤسسات الدولية في التأثير على الحكومات والمجتمعات المختلفة. سابعا: التعالي الإنساني من جانب والخفة الإنسانية من جانب آخر في توخي الحرص والتحوط من خطر الوباء...

إنها "لحظة انكشاف انساني"كبرى...حيث كشف الخطر عن كثير من القصور التي تحتاج إلى مراجعة يشارك فيها الجميع. حيث تشمل المراجعة: أولا: مدى كفاءة وفعالية خطط لتنمية المستدامة بأهدافها ال17 والتي تتضمن هدفا قائما بذاته عن الصحة حيث اشترط جودتها وربطها بالرفاه من خلال ضمان تمتع الجميع ــ كل الأعمار ــ بأنماط عيش صحية وبالرفاهية. أخذا في الاعتبار الربط بين كل الأهداف عند تطبيق خطط التنمية المستدامة. ثانيا: دراسة مدى استجابة عناصر التنمية المستدامة: مواطنون، ومجتمع مدني، ودول، وكيانات اقتصادية من التضامن من أجل جعل التنمية المستدامة حقيقة. ثالثا: كيف يمكن إحداث العلاجات الناجعة التي تؤمن تنمية مستدامة للجميع دون تمييز. ما يحقق في النهاية "مستقبلا مشتركا تنمويا مستداما آمنا". انطلاقا من ــ إذا ما استعرنا ما أطلق عليه الفيلسوف وعالم الاجتماع والمثقف الفرنسي الكبير "إدجار موران" (1921): "القَدَر/المصير" المشترك للإنسانية...وهو ما أثبته اختبار "الكورونا"...وأطلق جدلا أظنه سيكون نقطة تحول في تاريخ البشرية...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern