المعمل والمعبد في خدمة الإنسان

شهد العالم في الخمسة عقود الأخيرة تحولات ضخمة. كان العنوان الأساسي لهذه التحولات هو: التحرر الكياني الشامل للإنسان/المواطن المعاصر‘‘...

تحول تاريخي أول: سعى للتحرر من سطوة الخرافات والأفكار التقليدية والأجيال القديمة وكانت ذروته في 1968 فيما عرف بثورة الشباب أو الثورة التاريخية على الاستبداد الثقافي. تحول تاريخي ثان: جاء في نهاية الثمانينيات، مع انهيار سور برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي علامة على الرغبة المواطنية الدفينة على التحرر من الاستبداد السياسي.

تحول ثالث: انطلق في 2008 عقب الأزمة الاقتصادية الكارثية الأبرز في التاريخ، ولم يزل نشط، من أجل التحرر من الرأسمالية الجائرة/الجامحة التي لم تف بوعودها السوقية. أو ما يمكن وصفه بالاستبداد الاقتصادي. وتعرت تماما في ظل الجائحة الفيروسية أو هجمة "الكورونا/الكوفيد ـ 19" التي لم تكن مفاجأة(توقعت حدوثها تقارير منظمة الصحة العالمية في تقاريرها السنوية وقد أشرنا إلى ذلك في مقال مبكر سابق، كذلك تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي "الفورَمْ" الرسمي لليبرالية الجديدة على مدى عقود)...

إذن ثلاثة تحولات هائلة سعت إلى تحرر الإنسان ثقافيا، وسياسيا، واقتصاديا...هكذا توافق ما يعرف "بالتيار النقدي الراديكالي" ــ أشرنا إلى بعض رموزه في مقالات سابقة ــ من خلال نصوص عديدة تحليل طبيعة هذه التحولات في عمقها، وتجلياتها على أفكار وتوجهات وممارسات الإنسان/المواطن المعاصر. ونضاله ــ الذي لم يزل قائما ــ من أجل التحرر الثلاثي المستويات والأبعاد: الثقافي، والسياسي، والاقتصادي، وتأسيس زمن جديد أو نموذج حياتي إنساني/مواطني جديد.وهو النضال الذي ظهر جليا من خلال ما أطلقنا عليه: ’’النزعة المواطنية الإنسانية الجديدة‘‘...

ولعل من أهم ما يمكن تسجيله، في هذا المقام، هو فهم العملية المركبة التي تمارس ضد الإنسان من قبل الليبرالية الجديدة التي مثلت القوة المقاومة الرئيسية في الأربعين سنة الماضية ــ ولم تزل ــ للتحولات التي انطلقت ولا تزال جارية من أجل التحرر الثلاثي الأبعاد السالف الذكر. وقد تمثلت هذه المقاومة في كيفية ابقاء الإنسان/المواطن المعاصرمغيبا بالأساطير، ومأسورا بالقيود، ومملوكا لقوى السوق بهدف أن يظل المرء درويشا، وتابعا، ومستهلكا. أي منزوع الإنسانية/المواطنية بالتمام. وقد تمت تلك العمليات: التغييب، والأسر، والتملك عبر مثقفي وإعلاميي ووعاظ الليبرالية الجديدة...

وحلت "الجائحة الفيروسية" لتوجه النظر إلى الحاجة الماسة إلى أن تعيد الحضارة الإنسانية النظر ــ بحسب أحد المفكرين النقديين الراديكاليين ــ في كل من: "تنظيمنا الاقتصادي والاجتماعي، ومؤسساتنا السياسية، ثقافتنا، فكرنا وخطابنا الديني، بالعلم والتقنيات، وأخيرا علاقاتنا بكل من: الطبيعة، والبيئة، والحياة"...

ففي هذا السياق، لعل أهم ما شاورت عليه "الجائحة الفيروسية"؛ من خلال المجالات التالية: أولا: الحوارات البرلمانية في عدد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية،وثانيا: وسائل الإعلام من خلال المتابعة المكثفة الممتدة فيما أصطلح على التعبير عنه ب "24/7"، وثالثا: النقاشات الفكرية، هو الأهمية القصوى لإعادة النظر في دوري كل من "المعمل" و"المعبد"...لماذا؟

فبالنسبة للمعمل؛ فلقد ساهمت المجالات الإعلامية والسياسية والفكرية على جعل المفردات، والإشكاليات الطبية والعلمية تنتشر في كل بيت...مفردات من عينة: الفيروس، الأجسام المضادة، الجهاز المناعي، المصل واللقاح والدواء، الحجر الصحي، الاختبارات السريرية،...،إلخ. وإشكاليات تتعلق بما يلي: أولا: عملية البحث عن مصل ودواء جديدين، وعملية صناعة الدواء، خفايا تجارة الدواء ومساراتها المختلفة، الفجوة الكبيرة في وصول الدواء لفقراء الكوكب، عمليات احتكار الدواء، التأمين الصحي/الرعاية الصحية مفهوم اجتماعي أم نشاط اقتصادي، السياسات الحكومية والدولية الصحية والدوائية، طبيعة العلاقة بين الدول وشركات الدواء،أولويات البحث العلمي في مجال الدواء،...،إلخ.

أما بالنسبة للمعبد؛ فقد كشف الارتباك الشديد الذي ظهر في ردود أفعال الخطابات الدينية المختلفة التي تمحورت حول: العقاب الإلهي للبشرية،وغلبه خطابات: التأنيب والتأييس، والمقاربة السطحية لإشكالية مركبة تتعلق بالوجود الإنساني وعلاقته بالطبيعة والبيئة والحياة،...،إلخ.

لقد نجحت الليبرالية الجديدة على ترويض "المعمل" وتوظيف "المعبد" ليكونا في خدمة "الشركة" و"الحزب" وشبكات المصالح المرتبطة بكل منهما. ما حول، من جهة أولى "المعمل" ليكون في خدمة شركات الدواء باعتباره "سلعة" تأتي في المرتبة الثانية بعد تجارة السلاح. حيث تتجاوز تجارته الشرعية وغير الشرعية تريليون دولار. وهي تجارة تفتقد العدالة كما أثبتت إحدى المؤسسات المعنية بتتبع "وصول الدواء" لكل إنسان/مواطن على ظهر الكوكب.ومن ثم باتت استراتيجيات البحث عن دواء جديد وصناعته تتوقف على المكسب والاحتكار والتنافس بين الدول...ومن جهة ثانية، نجحت الليبرالية الجديدة على توظيف "المعبد" للتخديم على سياساتها وهو النموذج الذي قدمته إدارة الرئيس بوش الابن اليمينية المحافظة سياسيا ودينيا(أو إدارة التحالف التاريخي بين المحافظين الجدد واليمين المسيحي الجديد ــ راجع كتابنا ما بعد الإمبراطورية الأمريكية: ثلاثية الثروة والدين والقوة). وهو التحالف الذي يحرص عليه ترامب. بالرغم من أنه ليس محافظا دينيا مثل بوش الابن. ولكنها السياسة وما تفرضه من ضرورات...وقد نجح الترويض في أن يحول النظر عن مسئولية الشركات الكبرى وجشع القلة الثروية في إنضاب البيئة، وإنهاك الطبيعة في الإخلال بالتوازن البيئي الطبيعي. كذلك غض البصر عنالتراجع المُخجل للدول الكبرى عن الاضطلاع التزاماتها المالية واللوجستية حيال الإنسان والطبيعة والبيئة(وهو ما كشف عنه مؤتمر المناخ الذي أقيم في سبتمبر الماضي).

إن المسيرة النضالية للإنسان/المواطن المعاصر من أجل التحرر الكياني الشامل لابد من أن يستجيب لها "المعمل" و"المعبد". وذلك بأن يكونا في خدمة الإنسان وتمكينه من تجديد الحضارة الإنسانية واستدامتها...والعمل على التضامن المشترك العابر للحدود لوضع نهاية لكل ما هو غير إنساني في جدول أعمال المعمل وأولويات المعبد...نتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern