’’ من فضلكم، فلنصرف النظر كليا عن العودة مرة أخرى إلىحياتنا الاعتيادية‘‘؛
هذه العبارة هي عنوان النداء الذي توجهت به نخبة من علماء ومبدعي العالم المعتبرين إلى كل من يعيش على ظهر هذا الكوكب...
جاء النداء في شكل رسالة موجزة وقعت عليها 200 شخصية من المثقفين والفنانين والعلماء نشرتها "اللوموند" الفرنسية الشهيرة منذ أسبوع تقريبا. وجاءت الرسالة: النداء؛ في ما يقرب من 15 سطرا في ترجمتها الإنجليزية. وعلى الرغم من صغر الرسالة ــ مقارنة، مثلا، برسالتي المثقفين الأمريكيين الشهيرة اللتين صدرتا عقب واقعة انفجار برجي التجارة العالمي في الولايات المتحدة الأمريكية في سبتمبر 2001 ــ إلا أن رسالة نخبة مبدعي العالم ال200 التي صدرت الأسبوع الماضي جاءت مكثفة الأفكار وحاسمة وواضحة وبسيطة...وقبل عرض مضمون الرسالة/النداء؛ نشير إلى أهمية الرسالة؟
تتسم أهمية "الرسالة/ النداء" بثلاثة أمور نرصدها كما يلي: أولا: ثقل ومكانة ال200 شخصية الذين وقعوا عليها. فجميعهم قدموا انجازات معتبرة للإنسانية في مجالات العلم، والأدب، والفكر، والفن.فلقد ضمت قائمة الموقعين عدد غير قليل ممن حصلوا على جوائز نوبل في الطبيعة والكيمياء والطب وبحوث الدواء، والممثلين العالميين، والموسيقيين، والأكاديميين، والأدباء، والمخرجين، والمصورين، وكتاب الأغاني، والاقتصاديين،.../إلخ.
ثانيا: تعيد "الرسالة/النداء" الاعتبار إلى قيمة التواصل القيمي الإنساني/المواطني العابر للجغرافيات والثقافات والأيديولوجيات. ثالثا: تجسد "الرسالة/النداء" درجة عالية من الاحساس النبيل والراقي بالهم المشترك الذي تكابده الإنسانية...انطلاقا مما سبق صيغت "الرسالة/النداء"؛ فماذا تضمنت من أفكار؟
لم تلجأ "الرسالة/النداء" إلى المقدمات أو الديباجات المطولة. كما لم تلجأ للتنظيرات أو التحليلات المفرطة. وإنما كانت محددة ومباشرة تعبر عن عموم المواطنين في كل مكان سواء في الشمال الغني أو الجنوب الفقير وما بينهما...يستهل الموقعون "رسالتهم/ندائهم" ــ وبشكل مباشر بالعبارة التالية: "جائحة الكوفيد ــ 19 هي مأساة". وأن "هذه الأزمة تدعونا، بالأحرى، إلى إعادة الاعتبار في أولويات حياتنا".
و "ما نتصوره سهلا أو بسيطا: أي مواجهة الجائحة من خلال بعض التصويبات أو إعادة الترتيبات والإصلاحات أو القرارات ليس كافيا. ذلك لأن الإشكالية بنيوية"...وبحسم تنص الرسالة/النداء على أن الكوكب يعاني "كارثة بيئية مستمرة". ويصف الموقعون هذه الكارثة المزمنة بأنها "أزمة تفوق أي تصور" “meta-crisis”؛ ومن ملامح هذه الأزمة أن "الفناء الضخم للحياة على الكوكب لم تعد بعد احتمالا أو مشكوك فيها". فكل "المؤشرات تشير أننا نواجه تهديدا وجوديا مباشرا". فبالإضافة إلى شدة ما نعانيه بفعل الجائحة، ستلاقي البشرية ما هو "أكثر حدة وشدة من جراء تداعيات الانهيار البيئي الكوكبي والتي سوف تفوق أية حسابات". لذا "ننادي بصفتنا "مواطنين، القادة، للاستجابة الجدية إلى رغبة المواطنين أن يتركوا خلفهم المنطق غير المستدام السائد" والقيام "بإصلاحات عميقة" تشمل منظومة "قيمنا وأهدافنا واقتصاداتنا"...
وبعبارة مكثفة ومؤثرة تلفت "الرسالة/النداء" النظر إلى أن "اللهاث الاستهلاكي والتسلط الإنتاجي الرأسمالي قد قادنا إلى إنكار قيمة الحياة نفسها". وفاقم كل من "التلوث، والتغير المناخي، وتدمير المساحات الطبيعية النضرة المتبقية إلى أن يصل العالم إلى نقطة فاصلة" أو بلغة أخرى إلى حافة الهاوية.
ويخلص النص، إلى اعتقاد الموقعين عليه، إضافة إلى "الحاجة الملحة لتجديد السياسات التي تتعلق بالمساواة الاجتماعية، بأنه لا مكان للتفكير مجددا للعودة إلى الوراء حيث الحياة الاعتيادية"“Not to go back normal”؛...وهو أمر لن يتحقق ما لم يتم إجراء "تحولات جذرية تتطلب قدرا من الجرأة والشجاعة على كل المستويات". ما يستدعي "التزاما واسعا ومحددا"...ويختم الموقعون رسالتهم بالحث على العمل الفوري لإحداث التغيرات الجذرية ذلك لأن الأمر يتعلق بأن نبقى أحياءً" أو بديمومة الحياة...
ينتمي نداء نخبة مبدعي العالم إلى عينة من النصوص عرف مثلها التاريخ في مواجهة "الجوائح و الجوائر: الاقتصادية، والسياسية، والبيئية، والطبيعية، والحيوية، والاجتماعية، والثقافية"(مثل النصوص التي نددت واحتجتبحروب الإبادة، أو استخدام الأسلحة الفتاكة النووية والبيولوجية والكيميائية، أو التحرشات العرقية، إلخ. كذلك التقارير التي أصدرتها لجان كونية حول مستقبلنا المشترك أو التنمية المستدامة،...،إلخ)؛ والتي تعرف "بالنصوص الضميرية التي يطلقها أناس يشعرون بمسئوليتهم تجاه مواطنيهم من جهة، وتجاه التاريخ من جهة أخرى...
فبالنسبة للوجه الأول: تكمن شرعية المبدع في تحرره من سطوة شبكات المصالح وعلاقاته بالمتنفذين(أو بلغة الأدبيات السياسية ليسوا "كوميساريين": مثقفو الحزب، ولا "أبارتشيكيين": موظفو/بيروقراطيو الحزب/المعبد/الشركة"). وإدراك أن المواطنين هم الذين يمنحون الشرعية للمبدعين. ومن ثم عليهم أن يكونوا في طليعة من يدق ناقوس الخطر.
ولعل تأكيد الموقعين على النداء على توصيف أنفسهم "كمواطنين" يعكس ادراكهم لخطورة اللحظة التاريخية. وهنا ننتقل إلى الوجه الثاني: حيث أن تقصير هؤلاء المبدعين إنما يعني خيانتهم لشرعية المواطنة وحق المواطنين عليهم الذين دعموا إبداعهم الفني، والعلمي، والأدبي، والفكري. ما يعرضهم ــ يقينا ــ لأحكام تاريخية قاسية من قبل محكمة التاريخ. خاصة وأن ما آلت إليه الوضعية الراهنة للعالم تفوق أي تصور...فلا مفر، إذن، من إعلان ضرورة إعمال الحق لصالح مواطني الكوكب. ونزول كل من: الحزب، والشركة، والمعبد، والمعمل لحق هؤلاء المواطنين في حياة إنسانية/مواطنية: كريمة وعادلة، مستدامة...ولا يتأتى ما سبق مالم تتم إعادة بناء عالم جديد يتجاوز ما اعتدنا عليه ــ لزمن ــ واعتبرناه تاريخا نهائيا ومثاليا فأوصلنا إلى الحال الذي وصلنا إليه...
إن "رسالة/نداء" مبدعي العالم تطرح الكثير عن العالم الذي نعرفه ــ واعتدناه ــ ولكن وجب تجاوزه إلى عالم يبنيه البشر ــ كل البشر ــ دون استثناء أو تمييز، معا...ونتابع حول العالم الذي نعرفه والعالم قيد البناء...