الشركة والحزب واللايقين الإنساني...

انشغل، منذ سنوات، المفكرون بقضايا المستقبل بمحاولة تقليل كشف أستار هذا المستقبل قدر الإمكان.

انطلاقا من أن العملية الاستشرافية ــ على تعقيدها ــ من شأنها أن تقلل قدر الامكان حالة "اللايقين" التي استولت على الإنسانية في العقود الأخيرة من خلال: أولا: إعداد السيناريوهات المستقبلية المحتملة للمسارات الإنسانية.

ثانيا: دراسة التداعيات والأخطار المتوقعة التي يمكن ان يتعرض لها الكوكب ومواطنيه. ثالثا: توفير الاقتراحات التي تؤمن حياة تنموية مستدامة للجميع دون تمييز.

وفي هذا المقام، نشير إلى التقرير السنوي للأخطار العالمية الذييصدر عن المنتدى الاقتصادي العالمي. فقد رصد قبل سنتين عشرة أخطار تهدد العالم ومواطنيه مصنفا إياهم في مجموعتين كما يلي: المجموعة الأولى وتشمل الأخطار المحتملة وهي: أولا: موجات طقسية حادة. ثانيا: كوارث طبيعية. ثالثا: هجمات موجهة للمنظومة السيبرنتيكية (علم/عالم التحكم الآلي بتعقيداته وتشابكاته). رابعا: الإخفاق في التخفيف من تداعيات المتغيرات المناخية....

أما المجموعة الثانية فتشمل الآثار الناجمة عن وقوع الأخطار التالية بالفعل: اولا: استخدام أسلحة الدمار الشامل. ثانيا: ما سيترتب من دمار بفعل الموجات الجوية الشديدة. ثالثا: نتائج الكوارث الطبيعية. رابعا: الفشل في التعاون من أجل التحكم في المتغيرات المناخية. خامسا: أزمات المياه. وتأتي "الجائحة الفيروسية" (الكورونا أو الكوفيد ــ 19)؛ تبعا لتصنيف التقرير السنوي للأخطار العالمية الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، تحت البند المعنون "الكوارث الطبيعية"...وقد تناول التقرير وغيره، ما سيؤول إليه الواقع من جراء حدوث هذه الأخطار تفصيلا.

وبالرغم من الجهد المبذول في رصد الأخطار المحتملة والمؤكدة التي سوف تهدد الإنسان والطبيعة والبيئة. إلا أن هذا لم يمنع من أن تقع الإنسانية في أسر "اللايقين" “Uncertainty”؛ وهي قضية تناولتها كتب عديدة صادرة في 2019، حيث رصدت إلى أي حد يسود اللايقين الجنس البشري لسبب أو لآخر...ولكن قبل الإجابة عن لماذا ساد اللايقين؟...نشير إلى معناه؟

’’اللايقين‘‘ يعني: "ضعف الإدراك لما هو قائم وما هو آتٍ، أو فهم ما يجري في الحاضر وغموض ما سيحمله المستقبل للمرء...ونظرا لمحدودية الإدراك الآني ينمو الخوف من القادم". والسؤال المشروع الآن ألا تكفي الدراسات الاستشرافية التي تحمل قدرا من المعرفة التي من شأنها أن تريح الإنسان وتطمئنه أن تقلل ــ بعض الشيء ــ من اللايقين؟

تجيب بعض المصادر على هذا السؤال بأن الإشكالية التي تواجهها الإنسانية تكمن في التواطؤ الحادث بين: الحزب والشركة؛ وخلاصته: استئثار الشركة أو الاقتصاديين لاستثمار المعمل وما ينتج عنه من علاجات وحلول معملية اقتصاديا من جهة. وتراجع الحزب أو السياسيين عن أية التزامات تجاه الحلول المعملية وترك الأمر رهينة للتنافسات السياسية ليتم توظيفها حسب الظروف والأحوال سياسيا (تراجع كثير من الدول عن التزاماتها أخطار: المتغيرات المناخية، والبيئية، والبيولوجية،...،إلخ). ومن ثم يترك الإنسان حائرا وقلقا وخائفا بين الكسب السياسي من جهة والربح الاقتصادي من جهة اخرى...

إن حالة التواطؤ هذه بين الشركة والحزب قد سادت في السنوات الأخيرة. فالأخطار كانت معلومة. كما أن تداعياتها كانت مدروسة. ولكن التقاعس السياسي في مواجهتها والاستئثار الاقتصادي للحلول المعملية قد ضاعف اللايقين الإنساني. ما أضر بالوجود الإنساني أيما اضرار...

وما أزمة اللايقين الإنساني السائدة إلا انعكاسا للفشل المزدوج لكل من الوعود السياسية عن تحقيق مواطنية حقيقية من جانب، والإخفاق الاقتصادي في تحقيق حياة إنسانية كريمة من جانب آخر...وهو ما تكشف عمليا من خلال الارتباك في مواجهة "الجائحة الفيروسية" في دول المركز...

وقد فاقم من ’’الحالة المركبة الضبابية الوجلة‘‘؛ عدم قدرة المنظومات/الأبنية المختلفة: الثقافية والدينية والاجتماعية على أن تقوم بأدوارها فيما يتعلق بالآتي: أولا: توفير الإطار القيمي الذي يؤمن حياة الإنسان في الحاضر، ويطمئنه على مستقبله. ثانيا: استخدام الوسائل المتنوعة للضغط على رموز الحزب (السياسة)بضرورة إيلاء الكرامة والرفاه الإنسانية التقدير المناسب .ثالثا: تحرير المعمل من سطوة الشركة من خلال توفير الدافع الأخلاقي والديني والثقافي للتعاون الإنساني من أجل تأمين انتاج ما يحمي من/ويقضي على "الفيروس المتمدد" والمهدد لحياة الإنسان. ما يعوضه عن مناورات "الشركة" والحزب" أو الاقتصاديين والسياسيين في الاستئثار "بالمعمل".رابعا: التأكيد على تفعيل مبادئ النصوص الدستورية والمواثيق الدولية التي تتعلق بحق كل إنسان/مواطن في الحياة والصحة والسلامة الجسدية والحماية.خامسا: إعادة الثقة في الإنسان ودوره "كإبن وخليفة" لإعمار الأرض وحمايتها والعمل على تجديدها. ومن ثم استعادة اليقين للإنسان كي يقبل على الحياة بشغف...لقد بينت الجائحة الفيروسية من ناحية والجائرة/الجامحة الرأسماليةمن ناحية أخرى مدى هشاشة البني والسياقات التي يعيش فيها إنسان اليوم. وأنه لا أحد يملك الحقيقة المطلقة أو اليقين الكلي...فكلنا في مواجهة اختبار تاريخي كبير...ما يدفعنا جميعا إلى إعادة النظر والمراجعة والمكاشفة والمصارحة...

الخلاصة، إن استعادة اليقين الإنساني تتطلب ما يلي: أولا: تحرير المعمل ليكون في خدمة الإنسان. ثانيا: تفعيل المواطنة من أجل مزيد من الشراكة السياسية تؤمن سياسات تجعل من أهداف التنمية المستدامة واقعا حيا. ثالثا: إحداث تحول جذري في بنية الاقتصاد الراهن من أجل إحداث مساواة حقيقية بين الجميع. رابعا: مراجعة الكيانات المسئولة عن بلورة القيم: ثقافية أو اجتماعية أو دينية على أن تتوسع في بناء منظومات قيمية أكثر إنسانية تتسم: بالانفتاح، والقدرة على التواصل، وبناء الجسور، والتضامن بهدف تمكين الإنسان في كل مكان على مواجهة الأخطار ومقاومة الجوائح والجوائر والجوامح: البيولوجية، والمناخية، والعُنفية، والإرهابية، والاقتصادية،...،إلخ.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern