اللحظة الفارقة الفائقة...

مع مستهل الألفية الثالثة، انشغل كثير من المفكرين والباحثين والسياسيين بمستقبل العالم خاصة مع الطفرات المذهلة التي شهدتها البشرية من: أولا: تضاعف معرفي مركب، وثانيا: تجدد تكنولوجي مطرد، وثالثا: انطلاق مجالات بحثية جديدة كان مجرد التفكير فيها في الماضي يعد خيالا علميا مثل مجال الهندسة الوراثية، والذكاء الاصطناعي،...إلخ...

ومن الذين انشغلوا بالمستقبل ــ مبكرا ــ المفكر الفرنسي المرموق، والذي عمل مستشارا للرئيس فرانسوا ميتران مدة 20 عاما، العالم الاقتصادي والسياسي "جاك أتالي"(77 سنة)...فالرجل منذ تسعينيات القرن الماضي وهو مهموم بمستقبل العالم في ظل ما يتعرض له من تحولات جذرية على جميع الأصعدة. وكان أحد الذين نبهوا إلى ضرورة تبني "نهج" يضمن للإنسانية و"لأبنائنا وأحفادناالعيش في عالم قابل للحياة وإلا سيعانون جحيما مقيتا"(راجع كتاب قصة موجزة عن المستقبل ــ ترجمة نجوى حسن، المركز القومي للترجمة ــ 2013).

ذلك لأن اللحظة التاريخية الراهنة تشهد حالة من التوسع المُفرط في كل شيء. فنحن نعيش زمن الرأسمالية الفائقة“Hyper-Capitalism”؛ والتصنيع الفائق “Hyperindustry”؛ والتكنولوجية الفائقة“Hyper technology”؛...،إلخ...ونتيجة هذه "الحالة التاريخية الفائقة" ستحدث تحولات جذرية ينتقل بها العالم من حال إلى حال، ومن زمن إلى زمن...ويصبح السؤال المشروع هل نحن مستعدون لما هو قادم؟...خاصة أن هذه "الحالة التاريخية الفائقة" قد نتج عنها ظلما شديدا للغالبية من البشر من مواطني الكوكب. ما أخل بالعدالة بينهم وبلوغ ما يمكن أن نطلق عليه حالة من "اللامساواة الفائقة" “Hyper Inequality”؛ غير مسبوقة في تاريخ البشرية...ومن ثم لابد من إجراء كشف حساب "للألفية الغاربة" واستشراف مستقبل "الألفية البازغة" لمعرفة الحصيلة النهائية للفائزين والخاسرين من بني البشر.وقد أفرد "أتالي" كتابا كاملا من أجل رصد حصاد واستشراف الألفيتين عنوانه: "الألفية: الفائزون والخاسرون في العالم القادم".

ويمكن أن نستخلص من كتابات " جاك أتالي" المبكرة إلى أن العالم بات يعيش ــ منذ حقبة زمنية على الأقل ــ ’’حالة مركبة: فارقة ــ فائقة‘‘؛(إن جاز التعبير)، ونقصد بها ما يلي:

أولا: ’’ لحظة فارقة‘‘؛بين زمنين/مرحلتين/عالمين/دنيتين/نوعين من البشر/نموذجين مجتمعيين/منظومتين قيميتين/قلة من الفائزين وأغلبية من الخاسرين/...،إلخ...

وثانيا:’’درجة فائقة‘‘؛حيثبلغ العالم الذروة في كل شيء من: نهم كشفي وتنقيبي وتراكم انتاجي من جهة. وافراط استهلاكي وانهاك وانضاب للموارد والثروات الطبيعية والبيئية من جهة أخرى. ما أدى ، إلى تعاظم فائق للثروة في إطار قلة. وافقار هائل للأغلبية...والأهم الاستخفاف بالأخطار والتهديدات الطبيعية والحيوية البيولوجية والبيئية الناجمة عن بلوغ "الدرجة الفائقة"...

ويؤكد لنا التاريخ على أنه كلما دخلت البشرية دائرة اللحظات الفارقة التي تصل فيها إلى درجات فائقة من التناقضات الحادة، كلما باتت ضعيفة ومُستعبدة...ذلك لأن من يعتبرون أنفسهم من الفائزين يتشبثون بمكاسبهم ولا يرون إلا مصالحهم وينكرون ــ بالمطلق ــ المدى الكارثي الذي طال أحوال "الخاسرون" وأوضاع الكوكب الحيوية والطبيعية والبيئية...الأمر الذي تجاوز التقسيمات المتعارف عليها للعالم إلى: مركز وأطراف، أو شمال وجنوب، إلى عالم تحكمه قلة ثروية حاكمة مهيمنة على أغلبية مواطنية يقع نصفها تحت خط الفقر. وهو وضع وصلت إليه كل دول العالم بعد عقود من تطبيق السياسات السوقية.لا فرق بين دولة مركز: ثرية ودولة طرف: صاعدة أونامية أو فقيرة...

وحول هذا الأمر يقول "أتالي": "لقد أحكمت قوى السوق خناقها على الكوكب تعبيرا نهائيا لانتصار الفردية، والمسيرة المُظفرة للمال...ما سيلحق الضرر بالدول، التي سوف تهلك شيئا فشيئا" الجميع. فالسوق الذي أصبح وفق "أتالي" بمثابة "إمبراطورية فائقة"“Hyper empire”: "مترامية الأبعاد، خالقة للثراء التجاري ولأشكال الاستلاب الجديدة، وللغنى الفاحش والبؤس المدقع، سيؤدي إلى القضاء على الطبيعة بانتظام،...ما يدفع بأن يدجج الإنسان بكل ما هو اصطناعي، والأخطر أن يتحول/يستبدل بإنسان اصطناعي بالتمام. أو بلغة أخرى يختفي الإنسان"...

وهكذا يصبح على إنسان/مواطن هذا الزمن أن يسير قسرا في اتجاه الخضوع "لإمبراطورية السوق الفائقة". أو أن يتم ترهيبه بأن البديل هو الوقوع في فخ "النزاعات الفائقة" أو ال “Hyper conflict”؛ التي سيتم ــ وهنا المفارقة ــ من قبل "بارونات السوق الفائقة"(إن جاز التعبير). أي أن في الحالتين سوف يتعرض الكوكب ومواطنيه للكارثة...

وفي طلة مميزة، نهاية مارس الماضي، طرح "جاك أتالي" تصورا حاسما ومحددا من أجل: تجاوز"اللحظة الفارقة بتناقضاتها الفائقة"؛ وذلك بتأسيس ’’شرعية كوكبية جديدة‘‘تقوم على "التضامن الإنساني الكوكبي والعدالة المواطنية‘‘...

ويفسر "أتالي" طرحه بأنه علينا أولا: "أن ننظر بعيدا، أمامنا وخلفنا، لكي نفهم ما يحدث في العالم بالضبط". وثانيا: أن نرى إيجابيات "الجائحة الفيروسية" الراهنة. وفي هذا المقام، وللتدليل على أطروحته الساعية للتضامن والعدالة. يستدعي أفكاره التي بلورها مبكرا في كتبه، كما يستحضر وقائع التاريخ الخاصة بما فعلته "الجوائح" تاريخيا في القرون الوسطى، وفي القرن ال18، وفي القرن العشرين من أنها ــ بحسب حوار مارس الماضي ــ "تثبت زيف وعجز الأبنية القائمة". حيث كشفت "الجائحة الفيروسية" عن فشل كوكبي في مقاومتها. و"عبودية طوعية" عشناها على مدى عقود لرأسمالية جائرة"...ما أدى إلى: ضعف مناعي من جانب. وفشل سياسي من جانب آخر...

لذا على الإنسانية أن تقاوم الجائحة الفيروسية البيولوجية، وتتحرر من الجائرة الرأسمالية السوقية...بتأسيس زمن جديد يقومعلى درجة فائقة من: التضامن والعدالة...ما يحول دون خراب الكوكب الذي كم هو نادر وثمين بمقدراته ومواطنيه...وللانتقال الآمن للزمن الجديد يطرح "أتالي" وغيره(من المنتمين للتيار النقدي الفكري الجديد) تصورا عمليا نفسره في مقالنا الأسبوع القادم...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern