عالم جديد علينا أن نعرفه

في منتصف التسعينيات من القرن الماضي انطلقتموجة من الكتابات ــ ولاتزال ــ تنبه إلى أن عالما جديدا قيد التشكل...وأن العالم القديم الذي عرفته الإنسانية على مدى قرون بات آخذا في التلاشي...عالم مغاير تماما في قيمه وأفكاره وتوجهاته وممارساته...

لم يكن هذا التنبيه محض "خيالات ابداعية" مثل التي كان يطلقها مبدعو الخيال العلمي في القرن الثامن عشر، أو "فزلكات فلسفية" نظرية منبتة الصلة عن الواقع وتحولاته المركبة. وإنما جاء التنبيه من تيار هام في الفكر المعاصر نميل إلى وصفه بالتيار الفكري النقدي أشرنا إليه أكثر من مرة في العقد الأخير وعرفنا القارئ الكريم بأهم رموزه مبكراــ الراحلين منهم والأحياء ــ في أكثر من مقام ومنهم: آلانباديو، وآلان تورين،وإدجار موران،ومايكل مان، وجوديثباتلر، ودافيد هارفي، مايكل هاردت،وأنتونيو نيجري، وإيمانويل والرشتين، وإرنستولاكلاو، وجيوفاني آريجي، وسمير أمين، ونانسي فريزر،وسلافويجيجيك، وغيرهم. حيث توافقوا جميعا على ’’نهاية العالم القديم‘‘؛ أو بحسب العلامة الذي تراس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع البروفيسورإيمانويل والرشتاين(1930 ــ 2019)أحد أهم الذين درسوا تاريخ النظام العالمي وتحولاته من خلال خمسة مجلدات مرجعية غاية في الأهمية تغطي الفترة من القرن السادس عشر إلى القرن الواحد والعشرين. وانشغل، على وجه الخصوص منذ تسعينيات القرن الماضي، بفكرة أن عالما جديدا قد بدأ في الانطلاق يختلف كليا عن الذي تعرفه البشرية. وبلور رؤيته حولهافي كتابه ‘‘نهايةالعالم الذي نعرفه‘‘ “The End of the World We Know It”؛...

اعتمد "والرشتين" في فكرته حول "نهاية عالم نعرفه" على ثلاث حزم من المعطيات نرصدها كما يلي: حزمة النيوليبرالي ومن ثم دولة الرفاه والنماذج الدولتية المختلفة بتحقيق مجتمعات المواطنة والعدالة. ثانيا: أولىعنوانها "الإخفاقات الجسيمة"وتتضمن الآتي: أولا: إخفاق الاقتصاد إخفاق الديمقراطية بتوسيع نطاق الشراكة لغالبية المواطنين. ثالثا: إخفاق العلم بحماية الوجود الإنساني من الجوائح والأوبئة والأمراض الناجمة عن اقتصاد غير أخضر من جهة،وتأمين الطبيعة والبيئة من استباحة الانهاك والانضاب من جهة أخرى. رابعا: إخفاق المعبد بتجلياته المختلفة من توفير الأمان المطلوب ضد المروق الإرهابي وصدام الحضارات والثقافات والأديان...أي على التوالي تعرض الإنسان/المواطن لمجموعة متزامنة من: الجوائر، والجوائح،...

أما الحزمة الثانية فيكمن وصفها بحزمة "بالتحولات الكبرى"(وقد أشرنا إليها أكثر من مرة) والتي تتمثل فيما يلي: أولا: الثورة على الاستبداد الثقافي وتحديدا على السلطة الأبوية في شتى المجالات وذلك من خلال ثورة لطلبة/الشباب في 1968. ثانيا: الثورة على الاستبداد السياسي التي تجسدت بتفكيك الاتحاد السوفيتي وسقوط حائط برلين في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات. ثالثا: الثورة ــ التي لا تزال مستمرة ــ ضد اقتصاد السوق الذي أدى إلى أكثر من 200 أزمة مالية حادة منذ الثمانينيات من القرن الماضي وإلى الآن.

ونأتي للحزمة الثالثة من المعطيات فيما يمكن أن نطلق عليه حزمة "الطفرات العلمية والتكنولوجية المطردة والمتجددة" ــ والتي تتسم بالحيوية القصوى نظرا لما يطرأ على عناصرها من طفرات متلاحقة ــ وتشمل عناصر ترتبط بالتقدم التكنولوجي والبيولوجي والرقمي وبات متجسدا في : الذكاء الاصطناعي، والتقنيات التواصلية، والبيو جينيتيك،...،إلخ. وما فاقم من حدة حيوية الحزمة الثالثة هو ميلاد "جوجل" (وأقرانها) كمؤسسات شاملة كاملة تعمل في كل المجالات تمس حياة المواطن في كل مكان.

فمن محصلة الإخفاقات، والتحولات، والطفرات بدأت ’’أنساق‘‘ العالم القديم تتعرضــ بدرجات متراوحة ــ إلي: التهاوي، والتلاشي، والاضمحلال، والانهيار. ومن ثم بزغت أنساق جديدة غاية في التركيب تمثل إرهاصة العالم الجديد. أو كما يقول "والرشتين" أن "العالم المعاصر قد دخل أزمة الاحتضار، وأنه من غير المحتمل أن يبقى قائما"بصورته الحالية. ومن علامات الاحتضار كما يشير "والرشتاين" هو عدم "الاستجابة المبدعة":لتصويب الإخفاقات التي أصابت المنظومة الدولية: دولا ومجتمعات، وعلاج التداعيات التي نجمت عن التحولات التي طرأت على أحوال مواطني العالم من جانب. وعدم إدراك لما حملته ــ بالفعل ــ مستجدات الطفرات العلمية والتكنولوجية قيميا ونفسيا ومعيشيا من جانب آخر...

وقد نبه مبكرا "والرشتين" وغيره، بأن تفاقم كل من: الإخفاقات والتحولات سيكون من شأنه التسريع من تداعي العالم القديم الذي نعرفه. ما يعني أن يتحمل مواطني العالم بكل ألوان أطيافهم:شيوخا وشبابا، رجالا ونساءً، فقراء وأثرياءً، في القاعدةوالقمةالاجتماعية والطبقية والسياسية ، في الشمال الغني والجنوب النامي على الانخراط في فعل مركب: اقتصادي وسياسي وثقافي واجتماعي يتسم بالنزوع الإنساني/المواطني الذي يتجاوز العالم القديم "بأنساقه" المختلفة. ويحول دون إعادة انتاج العالم الذي صار "معيوبا"...

فالمجتمع الصناعي في ثورته الرابعة يختلف في علاقاته الاجتماعية، وأنماط انتاجه، وتقسيمه للعمل، عن ما قبله الذي استمر لزمن ممتد. كما لا يتوقع أن تستمر الموجة الرابعة الصناعية لوقت طويل. حيث يحل محلها ــ وقريبا جدا ــ موجة خامسة. ويقينا سوف تواكب كل موجة منظومة قيمية ثقافية جديدة أكثر انفتاحا على العوالم الجديدة تميل إلى التضامن، واللاعنف،والعدالة والحرية. والقدرة على التحرر من الخوف لمواجهة الجوائر الاقتصادية المُجحفة والمُذلة والمُهمشة والمُنبذة لإنسان/مواطن العصر. كذلك مقاومة الجوائح الطبيعية والبيئية والبيولوجية المهددة للوجود الإنساني والطبيعي والبيئي...

وتبقى التساؤلات المشروعة حول: كيف يمكن أن ندرك العالم الجديد قيد التشكيل أو كيف نتعرف على أهم ملامحه؟ وما هيته؟ وكيف نؤمن تحصين العالم الجديد من كل "ظواهر التفكك" ــ بحسب تعبير عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين (1925 ــ ) ــ التي أصابت العالم القديم...نتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern