(1)
«حق القلة فى التملك المطلق إلى حق الملكية للجميع»
يعتبر المفكر الفرنسى الاقتصادى «توماس بيكيتى» (49 عاما)، فى مجلده المعتبر الجديد «رأس المال والأيديولوجيا ـ 1200 صفحة، مارس 2020»، الثورة الفرنسية (1789) لحظة تاريخية فارقة فى التاريخ الإنسانى بين زمنين..
بين زمن أول يشمل المجتمعات القديمة: الصينية، والهندية، والعربية. وزمن تالٍ هو زمن المجتمعات الأوروبية الوسيطة الاستعمارية بمساراتها المختلفة (أو بلغة «بيكيتى»: المجتمعات العبودية القديمة والمجتمعات الاستعمارية)، وبين العالم الجديد الذى تأسس فى أعقاب انطلاق الثورة الفرنسية والموجات الثورية اللاحقة لها، فمن جهة أولى: خلخلت الثورة الفرنسية «بنية احتكار الملكية وحق التملك المطلق» من قبل الطبقة الثنائية الحاكمة، التى تتكون من: طبقة «النبلاء» أو السلطة الحاكمة التى تحتكر الملكية بالمطلق وطبقة «الأيديولوجيين»، الذين لا دور لهم سوى تبرير الاحتكار، والتى تتكون من النخبة الدينية/الثقافية. ما سمح بمساحة حضور للطبقة الثالثة المحرومة- تاريخيا- من التملك والملكية، والتى تشمل الأغلبية من جمهور المواطنين.. ومن جهة ثانية: أسست الثورة الفرنسية تحت مظلة شعارها الثلاثى التاريخى: الحرية والإخاء والمساواة، فى وثيقتها التأسيسية- التى باتت مرجعا دستوريا كونيا- لمبدأ «حق التملك للجميع» دون تمييز..
(2)
«الصراع بين التحالف اللامساواتى وتحالف المساواة»
وبالرغم من الإنجاز التاريخى الذى حققته الثورة الفرنسية، فإن المقاومة كانت شديدة من قبل الطبقة الثنائية الحاكمة: «النبلاء الجدد من محتكرى الملكية» و«الأيديولوجيين الذين يبررون احتكار الملكية» سواء دينيا أو فكريا لتبقى الملكية مقدسة للقلة الاحتكارية، وبالتالى الإبقاء على ما يطلق عليه «بيكيتى» «الديناميكية اللامساواتية»، التى تستمر وتتفاقم جيلا بعد جيل، ما أوصل العالم إلى مأزق مركب مع مفتتح القرن العشرين امتد إلى منتصفه، وتمثل فى الآتى: حربين عالميتين، وأوبئة جائحة، وكساد عظيم، الأمر الذى فرض تنازلات كبيرة من قبل التحالف الاحتكارى السلطوى الحاكم من الملاك و«أيديولوجييهم» الدينيين والفكريين. وتجلت هذه التنازلات فى الأخذ بسياسة الصفقة الجديدة الكينزية فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى، والتى حاولت أن تراعى البعد الاجتماعى للعمال والفلاحين. كذلك التطبيق الأوروبى لما عرف فى أدبيات التنمية والسياسة والاقتصاد «بدولة الرفاه»، فى محاولة لتوفير فرص متساوية بين جميع المواطنين، خاصة فى التعليم والصحة. وبالفعل تبلور «تحالف مساواتى» لتحقيق المساواة فى أكثر من طبعة كما يلى: طبعة الاشتراكية الديمقراطية ويسار الوسط فى أوروبا الغربية. وطبعة دول المنظومة الاشتراكية. وطبعة تحالف الانحياز بتنويعاتها المختلفة. إلا أنها فشلت فى تحقيق المساواة المأمولة أو حتى القليل منها. وفى المقابل، استطاع «التحالف اللامساواتى الاحتكارى للملكية والتملك» من قبل القلة أن يستعيد زمام المبادرة فى جعل «التفاوت» والاختلال بين البشر حالة تاريخية مستمرة موروثة. والأخطر هو النجاح التاريخى فى 1980 لليبرالية الجديدة فى تسييد اللامساواة لتصبح نظاما كونيا منذ هذا التاريخ، ولأربعة عقود تالية (أفرد «بيكيتى» مساحة مطولة لكشف خطورة هذه العقود الأربعة بالتحليل والإحصائيات التفصيلية والتدليل على فكرته المحورية)، فعمل على تشكيل أبنية غاية فى الصرامة لتكريسها وترسيخها، ما فاقم من حدتها، وذلك فى ظل أيديولوجية تشرعن وتبرر اللامساواة أو بالأحرى التملك المطلق.
(3)
«نحو تأسيس أنظمة عادلة»
يخصص «بيكيتى» فصلا فى الخاتمة حول المستقبل يدق فيه ناقوس الخطر باستحالة استمرار أنظمة ومجتمعات اللامساواة لأن مصيرها هو فناء الكوكب. لذا لابد من العمل على إحداث تحولات جذرية وبنيوية للنظام الاقتصادى «اللامساواتى» السائد والموروث قسرا فى اتجاه العدالة الحقيقية للجميع دون تمييز. وإلا فإن البديل المتوقع هو التدمير الذاتى.. فلا مناص من إقامة المجتمع العادل «Just Society»، القائم على كل من: أولا: «التشارك» «Participation»، وثانيا: التداول «Deliberation» فى شتى الأبنية الدولتية/ المجتمعية.. وتحت هذا العنوان العريض تطرق «بيكيتى» إلى الكثير من التفاصيل الاقتصادية، التى يجب أن يتسم بها الكوكب، والتى تتعلق بنظم: الملكية، والدخل، والضرائب، وشفافية مسارات ومآلات الثروة فى المجتمعات، والأجور العادلة.. إلخ. ويشير إلى ضريبة جديدة على الصناعات التى تسبب انبعاثات كربونية تخصص لصالح المتضررين والبيئة. ولضمان تحقيق ما سبق لابد من إعادة بناء المنظومة التعليمية حول قيمة محورية هى قيمة العدالة..