«بيكيتى» والتشريح الاقتصادى التاريخى للعالم

(1)
«الثروة ـ المال: الحركة والمآل»؛

يقوم العالم الفرنسى «توماس بيكيتى» (49 عامًا) فى مجلده الكبير: «رأس المال والأيديولوجيا»، إصدار 2020 فى 1220 صفحة، بتتبع تركيب القوى المهيمنة على الثروة ــ المال على مدى التاريخ الإنسانى وأثر هذه الهيمنة على المجتمعات المتعاقبة. وذلك من خلال تفاعل أطراف الهيمنة الحاكمة فيما بينها وهم قلة من جهة، وبين هذه الأطراف وباقى مكونات المجتمع من المحكومين/المواطنين من جهة أخرى.

وعلى مدى مقدمة وأربعة أجزاء و17 فصلًا وخاتمة، يقوم «بيكيتى» بعملية مركبة تعتمد على: أولًا: التشريح الاقتصادى التاريخى لمسار العلاقات الاجتماعية بين الأطراف المهيمنة الحاكمة وبين المجتمعات المحكومة. وذلك منذ القدم إلى يومنا هذا. ثانيًا: التداعيات الاختلالية التى أثرت على مواطنى هذه المجتمعات وأوصلت البشرية إلى «لا مساواة» غير مسبوقة فى التاريخ البشرى. ثالثًا: الأيديولوجيا: أو مجمل القيم والأفكار والخطابات التى تستند عليها وتوظفها القوى السائدة (السيدة) أو «أنظمة اللامساواة» «Inequality Regimes»؛ فى هيكلة أبنية المجتمع المختلفة ومن ثم التحكم فى توجيه مصائر المحكومين ليكونوا فى خدمة القوى الحاكمة. رابعًا: تقصى الإجابة عن سؤال: لمن الملكية فى كل مرحلة تاريخية. أو بلغة أخرى من يملك ماذا؟ وما المسموح للمرء، من خارج الأقلية السائدة، أن يمتلك؟ وما طبيعة ونوعية الامتلاك؟ حيث إن فى مرحلة من المراحل كان للأقلية السائدة حق امتلاك البشر إضافة، مع مرور الزمن، إلى الأراضى، والثروات الطبيعية، والأرصدة المالية، والوحدات الإنتاجية المختلفة، والمعرفة،...إلخ. خامسًا: يحاول «بيكيتى» الإجابة عن سؤال محورى هو: لماذا استمرت «اللامساواة» عبر التاريخ؟ ولماذا تفاقمت؟. سادسًا: أى مستقبل يمكن أن يحررنا من هذا التاريخ: العبء؟...

(2)

«أنظمة اللامساواة الثلاثية: أقلية ثنائية سائدة وأغلبية خادمة»؛

يعود «بيكيتى» إلى المجتمعات الحضارية التاريخية القديمة الآسيوية والشرقية والعربية الإمبراطورية القديمة ويرصد كيف أنها اتسمت بما أسماه: «مجتمعات الأنظمة الاختلالية الثلاثية Ternary Societies». وتقوم هذه الأنظمة على حكم ثنائى من جهة يتكون من: أولًا: أصحاب رأس المال من ذوى الجاه والقوة. وثانيًا: أصحاب الأيديولوجيا من رجال دين ومثقفين. ومن جهة أخرى يوجد الطرف الثالث وهم المحكومون الذين يقومون بالتخديم على ثنائى رأس المال والأيديولوجيا. واستمرت هذه العلاقة قائمة لوقت ممتد وفق نظرية حق الملكية للأقلية السائدة الثنائية وقبول الطرف الثالث لخدمتهما. وذلك فى إطار نظام اجتماعى تراتبى ساكن ومستقر. ومن ثم تبقى الأقلية الثنائية السائدة خالدة فى موقعها. وفى المقابل ترضى الأغلبية الخادمة بالوضع الاختلالى مهما ارتفع أنينها... والأخطر هو تفنن الأقلية الثنائية السائدة فى استمرارية الوضع مهما طال الوقت. ويشرح «بيكيتى» كيف نسجت هذه الأقلية الثنائية السائدة علاقة تاريخية ممتدة «لا تنفصم بين حق الملكية والامتيازات» التى تحكم امتلاكها فى المجتمعات الاختلالية الثلاثية القديمة، إما بالامتلاك القسرى بالقوة أو بالامتلاك الممنوح...

(3)

«علاقة القوة والامتلاك»؛

ومن أهم ما بيّنه «بيكيتى» فى مجلده المعتبر كيفية إدارة العلاقة بين القوة والملكية. فمن خلال الامتلاك المطلق لمقدرات المجتمع، تمت الهيمنة بلا حدود على مؤسسات المجتمع. ما مكّن كل النبلاء، ورجال الدين/المثقفين، الطبقة الثنائية الحاكمة من تشغيل الأغلبية التى لا تملك شيئًا جيلًا بعد جيل. وأن ما سبق، بحسب «بيكيتى»، هو ما حكم إدارة القوة ـ الامتلاك للمجتمعات عبر العصور على اختلاف طبيعتها: عبودية، أو زراعية، أو صناعية، أو معرفية،... ولم تختلف أوروبا العصور الوسطى عن المجتمعات القديمة خارجها من حيث أولًا: جوهر فكرة امتلاك القلة، وثانيًا: إدارة المجتمعات ذات الأغلبية التى لا تملك. ولكن تعددت المسارات الأوروبية منذ القرن السادس عشر بفعل الإصلاح والتنوير والثورة الصناعية. ثم جاءت الثورة الفرنسية «لتخلخل/تُفكك» فكرة «التقديس المطلق لحق الملكية» والإعلان عن كفالته للجميع، إلا أن «اللامساواة» تفاقمت... لماذا؟ وكيف؟...نواصل...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern