اختراع العزلة...

(1) «أى عزلة»،
يحتاج المرء، من وقت لآخر، لإعادة التفكر والتدبر، وللمراجعة والتأمل. بغرض تقييم حياته وتثمين ما حققه فيها من إنجازات ومساهمات ومنافع. وغربلة ما علق بها من إخفاقات وشوائب ومثالب... وحتى تنجح هذه العملية المركبة، لابد من أن يتحرر المرء من «عبوديته» لسطوة أبنية الحضارة الراهنة التى جعلته «إنسانا مشوهًا»، وأسيرا للا يقين، وفاقدًا للأمان، وتابعًا لقوى شرسة،...، إلخ...

ولن يتحقق التحرر ما لم «يعزل» الإنسان نفسه. ويعمل على «اختراع عزلة»؛ إذا ما استعرنا عنوان العمل الأدبى المعتبر للأديب والمخرج الأمريكى «بول أوستر» (73 سنة) ... ولكن أى عزلة؟... عزلة تعين على التحرر من أجل إعادة اكتشاف الذات التى يستشرى فيها الوهن، والعالم الذى يصرخ بالأنين... هذه هى «العزلة» المطلوب اختراعها... لماذا؟

(2) «الانكشاف... الاعتراف... التجدد»؛

يجيب «بول أوستر» بقوله لأننى: «أعتقد أن العالم ملىء بالأحداث الغريبة (الأليمة)، حيث إن عالمنا الواقعى يخفى الكثير من الأسرار التى تفوق أى منا»... ما يعنى أن تصورنا أننا ندرك كل شىء هو أمر غير صحيح. وأننا مسيطرون على كل شىء هو تصور غير دقيق. ومن ثم هناك ضرورة ماسة «للانتباه». ولن يتأتى الانتباه ما لم ننفرد بأنفسنا لممارسة عملية غاية فى التركيب للتغلغل الأمين فى «الذات الإنسانية» والتى تتكون من ثلاث مهام متعاقبة/متداخلة ــ ذات طبيعة مركبة ــ كما يلى: أولا: الانكشاف والتعرية للذات دون إخفاء أو تورية لما تم اقترافه من أفعال بناءة أو مدمرة. ثانيا: الاعتراف بما تكشف؛ مفرحا كان أو مؤلما، مشرفا كان أو مخجلا، مشجعا كان أو مؤذيا،...، إلخ. ثالثا: تجديد الالتزام الإنسانى تجاه العالم... إنها مهمة ليست بسيطة... ونستحضر نصا لجون أوستر من عمله المتميز جدا: «رحلات فى حجرة الكتابة»، ترجمة سامر أبوهواش، التى يقول فيها (ونقول معه فيها): «أنا إنسان، ولست ملاكا، وإذا كان الأسى (والتورط والاستغراق فى الحضارة الاستهلاكية من جهة والقبول بالعبودية لأبنية السلطة المتعددة،...، إلخ) الذى استولى علىّ قد شوش رؤيتى، وأدى إلى بعض السقطات، فإن هذا لا يجدر به أن يُلقى أى شك على صدق حكايتى (ورغبتى الصادقة فى التحرر والمقاومة. لذا عزلت نفسى لتقوية مناعتى وتعظيم مقاومتى)... وعليه وقبل أن يحاول أحد أن يُجردنى من الصدقية من خلال الإشارة إلى تلك العلامات السود فى سجلى، فإننى سوف أعترف بذنبى، وأنفتح بالتمام على العالم»... كى أولد من جديد...

(3) «عزلة تقضى على الجائحة الفيروسية/الجائرة الرأسمالية»؛

الخلاصة، تعد فترة العزلة الراهنة فرصة تاريخية ذهبية كى نعيد اكتشاف ذواتنا و«البراديم»، «Paradigm»؛ أو النموذج الحياتي/المجتمعى؛ أو العالم الجديد الآخذ فى التشكل... ستؤهلنا العزلة لمقاومة «الجائحة الفيروسية المحتدمة» بالتقوية الشاملة لجهازنا المناعى... كما تحررنا من «الجائرة الرأسمالية المحتقنة» التى ثبت فشلها فى إشباع حاجات الأغلبية من المواطنين. والتأسيس لنظام اقتصادى أكثر عدلا من جهة. إضافة إلى تأسيس نظام تأمينى صحى عادل وشامل يمتد للقادر وغير القادر على السواء. وذلك بتأمين الخدمات والتجهيزات والعلاجات الصحية المطلوبة والابتكارات الدوائية الوقائية والعلاجية التى تكون متاحة لمن يملك ولا يملك.نعم قد نكون قد بوغتنا بـ«الجائحة المحتدمة/الجائرة المحتقنة»؛ فى آن واحد. ونعم قد يكون المستقبل غامضا. إلا أن اختراع عزلة تتجاوز الدور الصحى المحض إلى عزلة تعمل على حماية إنسان المستقبل من الأذى الفيروسى/الضرر الرأسمالى...لأنه فى اللحظة التى يقرر فيها الإنسان أن يخترع عزلة تعيد تأهيله كى يكون حرا وفاعلا وعادلا. بات عليه أن يدرك أن جوهر العزلة بالمعنى التحررى إنما يعنى أن عليه أن يكون «مستعدا لما قد يباغته من حقائق ويتفاجأ به من أسرار. كما أن بلوغ جوهر الحقيقة (الحقائق) فى ذاته هو عمل صعب المنال»... ما يتطلب تأمين قبضتنا على الحقيقة/الحقائق. لأن هذا هو سبيلنا للتحرر...

(4) «عزلة قسرية ولكن ضرورية من أجل المستقبل»،

إن العزلة الراهنة التى تتعرض لها البشرية. ليست عزلة للاختباء والتسلح بالخرافات أو الاستسلام للخوف أو الاستخفاف غير المسؤول وإنما هى فرصة للتفكير المستقبلى. كذلك فرصة لتجديد الحواس والمشاعر، وتفعيل التعاطف الإنسانى حيال العالم والآخرين من شركاء المواطنية والأخوة الإنسانية العالمية... والتضامن معا من أجل الخير/الصالح العام...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern