(1) غَرَبَ...غَرُبَ...غَرًبَ
«غاب قرص الشمس تماما، وزحف الظلام على صفحة النيل»، كانت هذه هى حالة الطبيعة لحظة توقيع اتفاق التعاون بين «عباد»- رجل الأعمال النافذ فى الداخل، والواصل بالخارج- و«عبدالوهاب» أحد أساطين صناعة السكر فى القطاع العام، الذى تم عقده فوق سطح يخت يبحر فى صفحة النيل. وبموجبه تنتقل صناعة السكر الوطنية لتبعية قطاع السكر العالمى: صناعة وتجارة.. إنها لحظة تاريخية للقطاع العام خاصمتها شمس مصر.
ما جعل المشهد يحتمل وصف ما جرى- للقطاع العام- بالمعانى الثلاثة التالية مجتمعة: أولا: «غَرَبَ: غياب وأفول واغتراب». وثانيا: «غَرُبَ: اعتبار القطاع العام غريبا». ثالثا: «غَرًبَ: هاجر بالاتجاه للغرب».. جاء هذا الاتفاق فى منتصف أحداث رواية «سكر أسود» للكاتب الأديب والباحث عمرو كمال حمودة (الصادرة عن دار الثقافة الجديدة- 2019)، والتى تقع فى مائتى صفحة، لتكون لحظة فارقة بين: أولا: زمنين: زمن الصناعة الوطنية المستقلة من جهة واحتكارها من قبل قلة من جهة أخرى، وثانيا: عالمين: عالم المهندسين التابع لباريس أو باريس وامتداده فى المهندسين من جانب وعالم ملوى من جانب آخر، وثالثا: دائرتين: دائرة «بهوات البيزنس الجدد» ممن يعملون فى البورصات والتوكيلات والمصارف والاحتكارات- فى مدن الداخل والخارج- مقابل دائرة الصُنْاع من عمال ومهندسين وزارعى قصب فى الصعيد الذين يجتهدون فى استمرار صناعة وطنية «خيرها عليهم» ولهم، ولكن...
(2) الاستراتيجية الأبعد
حول صناعة السكر الوطنية وما آلت إليه تدور أحداث «سكر أسود»، حيث يروى عمرو حمودة بلغة أدبية، عبر أشخاص من لحم ودم، كيف تحققت «الاستراتيجية الأبعد» التى خططت لها السيدة «ميشلين رئيسة شركة سوكرونا الفرنسية العالمية من أجل بناء مركز احتكارى قوى فى السوق العالمية. ما يستوجب شراء المصانع الوطنية».. إنها الاستراتيجية التى سترفع من شأن «بهوات البيزنس الجدد»...وتحط من حال «العمال والموظفين المتوسطين والصغيرين» وتصل بهم «للحال الأعمى اللى مالوش لون ولا سكة»، ما يجعل انحدارهم عظيما.. ويعكس التناقض بين شخصيتى «شهدان» و«صالح» ما جرى فى الواقع بدقة شديدة.. كيف؟
(3) صعود شهدان وهبوط صالح
«شهدان»، هى سيدة جميلة كانت تعمل فى إحدى المكتبات بالمعادى. واكتشفها رجل الأعمال «عباد ألفونسو»، أو بالأحرى راهن على مواهبها الفطرية الخاصة، لتوظفها من أجل تنفيذ «الاستراتيجية الأبعد». ولم يكن مصنع ملوى إلا صفقة نجحت فى إتمامها نجاحا باهرا. ما يسر لها صعودا هائلا.. صعودا يعبر عن الحراك الاجتماعى إلى أعلى دون الحاجة إلى علم أو ثقافة.. أما «صالح» فكان على النقيض. فهو العامل الذى يمثل له المصنع «حلما يعيشه». فلقد كان ذكيا ومبتكرا ومؤهلا فنيا. كان الأول على مستوى المدارس الصناعية فى المنيا سنة تخرجه.. ارتبط بمصنع السكر بملوى منذ الصغر فصار «موضوعا يحتل تفكيره فى كل الأوقات».. وحلم أن تزدهر الصناعة فتنتعش حياة أبناء مجتمعه ويتقدم الوطن. خاصة أنه أدرك مبكرا مدى الارتباط «بين العملية الصناعية والعملية الإنتاجية». وأن المصنع «بنية مركبة تضم الآلات والمعدات والعمال والمهندسين والإدارة».. كان منفتحا على العلم فكانت علاقته مع الدكتور وليد واسع الثقافة، وكيل المعهد الصناعى، وثيقة. كذلك على خبرة المهندس الخبير «نشأت»، والعامل المخضرم عبدالحى، وإبراهيم أمين المكتبة.. حيث تعلم من الجميع. ما أهله ليكون نقابيا ناجحا يعمل من أجل الصالح العام ودفع عجلة إنتاج المصنع إلى الأمام.. ولكن الاستراتيجية الأبعد بتقاسم المصنع بين مجموعات مالية مختلفة قد تم اتخاذه فى الاتفاق الذى غربت عنه الشمس ما غيب الحلم...
(4) أدب الحقيقة المرة
«سكر أسود»، رواية تنتمى لما يمكن أن نطلق عليه أدب كشف الحقائق «المرة» عما هو غامض ومسكوت عنه فى الحياة الاجتماعية والاقتصادية حول شبكات المصالح، والصراع بينها وبين المتضررين منها ممن ينتمون لفئات اجتماعية مختلفة، وصفقات غامضة وهو أدب عرفته الولايات المتحدة الأمريكية زمن الأزمة الاقتصادية وتحديدا فى كتابات «فرانك نوريس». كما جسدته السينما الأمريكية فى الكثير من أعمالها.. إنه عمل متميز جدير بالقراءة فى زمن «الرأسمالية الجائحة».. تحية للعزيز عمرو كمال حمودة.