«منة الله» والاغتراب الدائم

(1) خائفة من كل شىء
«حدث فى برايتون»؛ رواية مهمة وملهمة للباحث المعتبر د. سامح فوزى (صدرت فى روايات الهلال ــ فبراير 2019). رواية محورها الشابة «منة الله» التى تنتمى لجيل «رتابة الاقتصاد وضعف الفرص». فهى ابنة الطبقة الوسطى الصغرى «جدا» التى تنتظر فرصة لتحقيق «نقلة سريعة فى الحياة». وذلك إما بالزواج من أحد الذين يحظون بالمكانة.

أو بالترقى العلمى الذى يؤدى إلى تحسين فرص اختيار الزوج ومن ثم الترقى الاجتماعى. خاصة أنهم أسرة «بلا إنجاز ولا ذكر، لا تتميز فى شىء، ولا يسمح لها الفقر بالتفكير فى التميز».. لذا عاشت «منة الله» فى خوف دائم كان «يقيدها بسلاسل نفسية»، ترسم لها ملامح مشوهة عن الذات، والمجتمع، والعالم، والآخرين.. قيود لا تسمح لها «سوى بالخيال أو بمعنى أدق بالخرافة، تسترسل فيها».. فصارت خائفة من كل شىء.. ولم يكن سعيها لمنحة خارجية سعيا واعيا من أجل العلم بقدر ما كان محاولة لتحسين شروط الحياة القاسية التى «يُخضع الاقتصاد فيها البشر».. ما دفعها لسنوات «تطوع شخصيتها حتى تكون على مقاس المجتمع».. فعاشت عمرها «مغتربة» عن مجتمعها، قبل الذهاب إلى برايتون للحصول على الدكتوراه فى الكيمياء، اغتراب تسوده العزلة و«البؤس» و«جفاف الروح».

(2) رحلة اكتشاف الذات فقط

وفى برايتون رأت دنيا جديدة. فبدأت «تقارن أحوالا بأحوال»، أى بين قريتها وبين برايتون، «تتذكر نفسها طفلة عاشت فى مجتمع لم تلعب فيه مع أطفال مثلها سوى فى الشوارع الضيقة فى قريتها أو الساحة القريبة من منزلها التى تحولت إلى أرض بور توطئة لبنائها. لم تر والديها إلى جوارها أثناء اللعب، ولم ترهما يخرجان للتنزه مع أولادهما. تعساء عاشا، وأورثاهم التعاسة».. بينما فى برايتون «الأطفال بجوار والديهم يلهون فى اللعب» الكثيرة المتعددة المبتكرة.. أطلقت المقارنات، و«المونولوجات» الداخلية المتواصلة، والحوارات مع الآخرين، كذلك الطبيعة الخلابة، والحياة التى تضج بالزخم والحيوية والتنوع، «مشاعرها لتركض فى اتجاه التغيير».. ولكن ظلت «ذكرياتها الكئيبة تداهمها».. فكانت تقاومها بالاستمرار فى عملية التغيير والتى حددتها فى: «الاستقلال، وأن تكون حقيقية، والسعادة، وأن تعيش اللحظة».. لقد استطاعت أن تكتشف ذاتها فى برايتون.. وبالرغم من هذه التحولات إلا أن «منة الله» لم تستطع أن تتجاوز هذا الاكتشاف إلى المجتمع.. فلقد ظلت فى زياراتها أثناء فترة الدراسة إلى بلدتها تميل إلى الانعزال والوحدة. وحتى بعد عودتها النهائية وبعد تحقق حلمها فى الترقى الاجتماعى بالعمل مديرة إقليمية بشركة متعددة الجنسية، والتزامها بالصرف على عائلتها الفقيرة، نجدها تعيش وحدها فى القاهرة. نعم تشعر بالاستقلال النفسى والمالى إلا أنها بقيت على «نظرتها التقليدية للحياة رغم الثقافة الحديثة التى اكتسبتها».. لذا وقعت فى «فخاخ كثيرة».. فبدأت متأخرة جدا «تكتشف المجتمع الذى لا تعرفه».. أخذا فى الاعتبار أن الأولوية باتت دائما لذاتها ولابنتها التى أنجبتها من تجربة زواج فاشلة من زوج انتهازى.. ظلت مهووسة ببرايتون فباتت «بوصلتها، والمكان المفضل لها، مهد التغيير، ومخزن الذكريات، الحياة الجديدة التى تعشقها،...، وسرح خيالها حالما بقبر فيها،...».. لذا كانت ترتحل إليها سنويا.. كما ربت ابنتها «مريم» وفق معايير برايتون متحررة من الخوف.

(3) منة الله تعبير عن جيل الرتابة

يقدم لنا «سامح فوزى» شخصية بطلته مغايرة تماما عن الشخصيات الكلاسيكية التى عرفها الأدب المصرى ممن بدأ وعيهم يتشكل من خلال تجربة السفر من أجل العلم فى الغرب.. فكانت الأعمال الكلاسيكية تحمل مستويات عدة من الصراعات على المستويات: النفسية، والروحية، والعقلية، والحضارية. «فمنة الله» ليست يقينا «إسماعيل» فى «قنديل أم هاشم» أو «عصفور من الشرق»، أو...، إلخ. فشخصيات الأعمال الكلاسيكية لم تكتشف ذواتها فقط وإنما تجاوزت ذلك للمجتمع وللعالم.. بينما ظلت «منة الله» متمحورة حول ذاتها.. لا تدعى دورا مجتمعيا راديكاليا من أجل التغيير، أو ثقافيا من أجل نشر الوعى.. أى مثل «إسماعيل» الذى عاد وكأن «روح طبيب كاهن من الفراعنة قد تقمصته.. لعلاج العميان» فى مصر.. فلقد ظلت ممتنة لبرايتون أنها تغيرت دون أن تتعمق فيما هو أكثر من ذلك.. لذا عاشت مغتربة دوما معبرة عن جيل «الرتابة».


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern