الجغرافيات السياسية للمتوسط

(1) فى معنى الجغرافيا السياسية
يجمع علماء الجغرافيا السياسية فى كتاباتهم على أن مصطلح «جغرافيا سياسية» يعنى: «بعلاقات التنافس على بسط السلطة أو النفوذ على مناطق جغرافية ما وعلى من يعيش فيها من السكان». وتتراوح هذه العلاقات، بحسب المؤرخ والجغرافى الشهير إيف لا كوست، بين «تنافس سلمى وصراع عنيف بين القوى السياسية بأشكالها المختلفة،

أى ليس فقط بين الدول، بل أيضا داخل الدولة الواحدة، بين حركات سياسية او مجموعات مسلحة تعمل فى الخفاء إلى حد ما؛ غاية هذا التنافس وضع اليد أو السيطرة على مساحات من الأراضى قد يكبر حجمها أو قد يضيق حتى لا يتجاوز رقعة صغيرة»... وبالطبع، التنافس السلمى معروف طبيعته ومداه حيث يعنى الفوز والربح للجميع بدرجة أو أخرى فى إطار الشرعية الدولية والإقليمية القائمة. بينما الصراع العنيف، بالإضافة إلى ما هو مذكور فى تعريف «لاكوست» فإنه قد يستدعى أيضا أن تؤجج دولة ما صراعا داخليا فى إحدى الدول، أو الانتظام فى محور ما فى مواجهة محور آخر،...، إلخ، حيث يتحدد الموقف بحسب «الجغرافيا السياسية» ومدى ما يتحقق من فوائد وثمار.

(2) الجغرافيا السياسية بين التعاون والتناحر فى المتوسط

فى هذا السياق، أتى حديثنا عن ليبيا على مدى أسبوعين وفق رؤية العبقرى «جمال حمدان» وأهميتها من منظور الجغرافيا السياسية تاريخيا لمصر. ومحاولة تركيا «التحرش» السافر بهذه الجغرافيا السياسية المصرية التاريخية من خلال إحياء الجغرافيا السياسية العثمانية مجددا عبر المتوسط. لذا بدأنا نتحدث عن الأهمية الاستراتيجية للبحر البيض المتوسط فى الأسبوع الماضى. ذلك لأنه بالرغم من أن الجغرافيا السياسية العثمانية قد هُزمت تاريخيا. وكان «المتوسط» شاهدا حيا. إلا أن تركيا، وغيرها من الدول، يحاولون تجديد الصراع حول المتوسط. أو ما يعبر عنه لاكوست بـ «الجغرافيات السياسية لمنطقة البحر الأبيض المتوسط»؛ أو ارتدادات الصراعات فى المساحة البحرية المعروفة بالمتوسط... بدلا من التعاون الواسع بين دول هذه المساحة البحرية الممتدة التى تضم دولا من أوروبا وإفريقيا وآسيا. ويعيش فيها ملايين من البشر ممن ينتمون لمختلف الأديان والمذاهب والقوميات والأعراق. ويتحدثون بعشرات اللغات واللهجات. وهو تنوع يمكن أن يكون مصدرا للتكامل. كما يمكن أن يكون مجالا لإثارة الكثير من «التناحرات» بما يصب فى صالح تعظيم الجغرافيا السياسية لدولة من الدول على حساب الآخرين.

(3) الجغرافية السياسية: التاريخ والمعطيات الجديدة

وتشير الأدبيات الكثيرة حول تاريخ «الجغرافيات السياسية» لدول المتوسط من جميع اتجاهاته، إلى أن هذه «الجغرافيات السياسية» تتجدد عبر التاريخ نتيجة اكتشاف عناصر جديدة يكون من شأنها إعادة بلورة موازين القوة فى المساحة المائية للمتوسط. ويقول لنا التاريخ إن هذه العناصر قد تكون: أولا: ثروات وموارد طبيعية تحظى بها دول الحوض سواء المطلة على البحر مباشرة أو التى تحيط بالدول الشاطئية، وثانيا: دول قوية إمبريالية الأهداف، وثالثا: خلق محاور وتحالفات ذات طموحات للهيمنة،...، إلخ... فمثلا، يقدر احتياطى الغاز فى المياه الإقليمية لشرق المتوسط بـ 120 تريليون متر مكعب، وما يقرب من 2 مليار برميل نفط. ويبلغ نصيب الدولة السورية 30 تريليون متر مكعب. ما يفسر كثيرا الدور الروسى هناك. حيث إن جغرافيتها السياسية تتضمن الربط بين إنتاجها الذاتى والإنتاج السورى وغيره بما يضمن تعظيم دورها كأحد مصادر الطاقة العالمية من حيث الإنتاج والتوصيل والإمداد. وبهكذا «جغرافيا سياسية» يمكن لروسيا أن تهيمن على ما يزيد على 40% من احتياجات أوروبا من الغاز... هذا ناهيك عن إثارة الشركات الأوروبية للعب دور فى المتوسط... إذن تجدد المعطيات المادية للمتوسط تعنى ارتفاع قيمته الاستراتيجية ويفسر ما يحدث فيه وحوله... وباتت تفرض تجديد الجغرافيات السياسية... وتنبهنا لسوء الدور التركى... ولقراءة بعض الرؤى الجغرافية السياسية الضارة التى تبرر الأدوار الضارة لتركيا وغيرها... ونواصل.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern