البحر الأبيض المتوسط.. استراتيجيًا

(1) المتوسط: ما أروعه
من أول وأكثر البحار التى عنى بها حقل دراسات الجغرافيا السياسية البحر الأبيض المتوسط. لذا اكتسب أهمية قصوى باعتباره نموذجا رياديا فى كيفية دراسة البحار. ويعود الفضل فى هذا المقام إلى المؤرخ الفرنسى «فرناند برودل» 1902ـ 1985؛

ومن مؤلفاته المرجعية: «هوية فرنسا، والحضارة المادية الاقتصاد والرأسمالية»، حيث أنجز دراسته المعنونة المبكرة «البحر المتوسط»؛ حيث قاربه على ثلاثة محاور رئيسية استغرق كل واحد منها عقودا عديدة من الزمن، وتطلب دراسة مكثفة تناول فيها: أولا: المتوسط من جوانبه التاريخية والجغرافية والطبيعية والاستراتيجية، وثانيا: المتوسط من جانبيه الحضارى والاقتصادى، وثالثا: علاقته بالهوية الفرنسة. فى هذا المرجع التأسيسى يمكننا أن نتبين بوضوح أهمية «المتوسط» التاريخية باعتباره حوض المياه التاريخى لمواقع حضارية متعاقبة ومتوازية، كذلك متعاونة ومتنافسة، مثل: المصرية القديمة، واليونانية، والرومانية، والبيزنطية، والعثمانية،...، إلخ، حضارات تشكلت فى قلب العالم. وعلى مر العصور، كان المتوسط شاهدا على كثير من التحولات، والتشابكات الحضارية، والصراعات، ومن ثم اكتسب أهميته التى لم تفارقه حتى يومنا هذا.. بل زادته قيمة، لذا استحق أن يحظى بوصف القديس باسيليوس الكبير (330 ـ 379م): «البحر المتوسط من أروع ما خلق الإله».

(2) المتوسط: الدور الاستراتيجى المتجدد

لذا لم تتوقف الكتابة عن «المتوسط»، قط. ونشير فى هذا المقام إلى المجلد المرجعى لإميل لودفيج «البحر المتوسط» الذى استغرق العمل فيه ثلاثة أعوام. ومجلد المؤرخ البريطانى اللورد جون جوليوس نورويش «الأبيض المتوسط: تاريخ بحر ليس كمثله بحر»- 2006. ومجلد المؤرخ والجغرافى المعاصر إيف لاكوست «الجغرافيا السياسية للمتوسط»- 2006. وكلها كتابات تؤكد الدور المتجدد للبحر المتوسط وخاصة بعد حفر قناة السويس. ومن ثم قدرته أن يكون ملعبا مثاليا يعكس التطورات السياسية التى لحقت بالنظام العالمى. والتحولات الاقتصادية التى طرأت على النظام الاقتصادى العالمى.. ليس بالمعنى المادى المباشر، فقط، أى استيعابه المتزايد للتطور المادى فى وسائل النقل البحرى، ونوعية الحاويات، وما تحويه. وإنما أيضا فى قدرته على استيعاب «التشبيك الرقمى» الكونى عبر الكابلات الإنترنتية. ما اختزل الوقت الكبير- جدا- ليس فى مجال النقل والشحن وإنما التواصل ونقل المعلومات.. والأهم هو التأكد من أن أعماقه تحوى «كنزا» من الثروة الطبيعية. ما يعنى دورا استراتيجيا جديدا ومتجددا.. وتحديات مستجدة حول «المتوسط».

(3) الجغرافيا السياسية للمتوسط

لذا بفعل الثروة الكامنة فى المتوسط من جهة. وسرعة التواصل المادى والرقمى من جهة أخرى. يوسع إيف لاكوست من معنى المتوسط. فلا يقصره على البحر وشواطئه فقط بل أيضا الدول العديدة التى تحيط بهذه المساحة البحرية. وبالنتيجة يخلص «لا كوست» إلى أن: «التحديات الجيوسياسية فى المتوسط، ولكونها تتعلق بخمس وعشرين دولة، متنوعة وخطرة ومتداخلة أكثر من أى منطقة أخرى. فلا يمكننا اختزال التحديات القائمة»- كما كان فى القديم- على أنها صراع حضارى، أو اقتصادى، أو تنافسى/ مذهبى بين/ داخل العالم المسيحى والعالم الإسلامى، أو تناحرى بين القوميات العديدة التى تتموضع على ضفاف المتوسط بجهاته المختلفة. وإنما هى، فى زمن العولمة، كل ذلك لأنها تحقق الهيمنة قدر الإمكان على المتوسط.. وهو ما يفسر «القفزة» الهائلة التى تقوم بها تركيا عبر «البحر المتوسط» للسيطرة على الجانب «الأبعد» من ليبيا (كما أشرنا فى مقالنا الماضى) حيث لا حدود مشتركة بين تركيا وليبيا. ومهما تعددت الأسباب. فمن قائل بأنها محاولة لإحياء العثمانية أو ما بات يعرف بالعثمانية الجديدة. أو غير ذلك. فإن الأكيد أن ما تفعله تركيا هو إخلال بثلاثية: السيادة، والشرعية، والحقوق، بحسب ما أكدته قواعد المنظومة الدولية منذ معاهدة وستفاليا (1648).. كما يشجع- ربما- دولا ليس لها حدود بحرية على التحالف مع أخرى لها حدود متوسطية لتحقيق مصالح مشتركة.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern