كتاب العلامة «جمال حمدان» عن ليبيا كتاب مفتاحى لفهم: أهميتها التاريخية، والديموغرافية، والاقتصادية من خلال التطورات «الجيوبوليتيكية» (الجغرافية ــ السياسية) التى طالتها عبر العصور. وتاريخية العلاقة الاستراتيجية الوثيقة بين مصر وليبيا والتى وصفها بعلاقة «الطين والرمل» المتشابكة بين الوادى والصحراء... قد تكون ليبيا، يقول حمدان، كدولة «ظاهرة حديثة جدا فى السياسة الدولية. بنت القرن العشرين على الأكثر، ولكنها فى حكم الجغرافيا السياسية، وبمقاييسها دولة قديمة للغاية، عمرها عشرون قرنا على الأقل»... فمنذ عرف الإغريق القدماء الأرض التى ذكرها لنا «هيرودوت باسم ليبيا، والعالم مضطر إلى أن يفردها كوحدة جغرافية متميزة». فبين «كتلة جزيرة المغرب» غربا، ووادى النيل بمصر» شرقا، وإلى «الجنوب من الحوض الأوسط للبحر المتوسط، تمتد مساحة شاسعة»، لا مفر من اعتبارها منطقة جغرافية قائمة بذاتها. ثم هى فى الوقت نفسه وإن اشتركت معهما فى القطاع الأكبر من الصحراء، التى هى بحد ذاتها عامل فصل أولى، تختلف بقطاعها الفعال عن كل منهما اختلافات متفاوتة ولكنها أساسية، سواء فى البنية أو البيئة، الطبيعية والبشرية... ومن هذين العاملين: أولا: مطلق الامتداد المترامى؛ وثانيا: الاختلاف الطبيعى والبشرى المطلق والنسبى؛... تستمد ليبيا قوتها؛ من الموقع والثروة الطبيعية والبشرية.
«ليبيا: قلب الميزان»
كما تتوسط ليبيا ساحل البحر المتوسط الجنوبى، تتوسط ــ يقول «حمدان» ــ العالم العربى الإفريقى، فتبدو «كقلب الميزان منه، كقناة فى حوض النيل شرقا وإقليم أطلس غربا» (لاسيما إذا أضفنا موريتانيا كذلك). ومن الناحية الأخرى فإنها كما تتألف فى الداخل من نطاق متوسطى وقطاع صحراوى، تقع بين البحر المتوسط ومن خلفه أوروبا شمالا وبين الصحراء الكبرى ومن ورائها السودان الإفريقى وإفريقيا المدارية جنوبا»...
.. وأدى هذا التوسط: قلب الميزان؛ إلى أن يكتسب موقع ليبيا عبر التاريخ قيمة كبيرة. حيث تبين عمليا وفى أوقات الحروب ـ تحديدا ــ الأهمية الاستراتيجية لليبيا حيث يمكن أن يتم «تهديد شرايين مواصلات البحر المتوسط، كما يمكن منه الزحف يمينا إلى الشرق الأوسط ويسارا إلى شمال إفريقيا»... ومن ثم تعد ليبيا بحسب حمدان «قوة بينية صغيرة تقع بين قوتين قطبيتين» مصر من الشرق. والمغرب العربى من الغرب. ونضيف من خلفها إفريقيا وأمامها المتوسط وأوروبا: إيطاليا واليونان تحديدا...
ويشار فى هذا السياق إلى دخول «ليبيا فى علاقات حميمة وبعيدة المدى مع المشرق، وخاصة مصر من حيث التأثير الحضارى لمصر من جانب. واستقبالها للهجرة الليبية التى لم تنقطع إلى مصر على مدى الأزمنة. ما جعلها الأقل «مغربية» بين دول المغرب ولكن يقينا هى الأكثر مشرقية بينهم... من هنا تأتى العلاقة الحميمة بين مصر وليبيا.
(٣)
«ليبيا: من صندوق الرمال إلى صندوق الذهب»
لقد تحولت ليبيا، بالبترول، (والغاز فى قادم الأيام)، من «صندوق من الرمال» إلى «صندوق من الذهب». ما أضاف إلى «ليبيا: قلب الميزان» الكثير والكثير. وقد فرضت الثروة المنطلقة ضرورة التوحيد بين المكونات الليبية. الأمر الذى طالما لم يرده الاستعمار الأوروبى ــ الإيطالى تحديدا ــ من جهة والعثمانى من جهة أخرى فى مرحلة تميز الموقع دون الثروة.
فما بالنا إذا ما تجمعت كل من ميزتى الموقع والثروة معا. أخذا فى الاعتبار غياب القوة الوحدوية. ذلك لأن ليبيا الموحدة تعوق أى أحلام توسعية لأى قوة فى المنطقة. كما تقلل كثيرا من النزح المنظم للثروة المتوفرة والمحتملة... وفى المحصلة، فإن تنامى القوى الإقليمية وتنافساتها على الثروة فى الشرق الأوسط «كمنطقة حيوية» قد جدد الصراعات القديمة على دول ليبيا...
وتأتى ليبيا فى هذا السياق. فمن حيث الموقع: تتجدد الأحلام الاستعمارية القديمة من قبل تركيا تحديدا والتى تحاول أن تعيد التقليد العثمانى التاريخى بالقفز على ليبيا عبر المتوسط... ومن حيث الثروة: لضمان نزحها المنظم والدورى بلا حسيب أو رقيب عبر الشركات الأوروبية.