«صبى سعيد» و«رجل مدهش»

(1) «قراءات نهاية العام»؛
نواصل تقديم جانب من قراءاتنا الأدبية التى نُلزم أنفسنا بها مع نهاية كل عام. فقراءة الأدب تحلق بالمرء نحو آفاق من الإبداع فى تقديم شخصيات، وتجارب إنسانية، وسياقات اجتماعية متنوعة. كما تعمق النظر تجاه المواقف والأفعال/ردود الأفعال. كذلك التفاعلات الإنسانية الحياتية والمجتمعية فى أزمنة وأماكن مختلفة. فى مقال الأسبوع الماضى، تناولنا «بروميثيوس طليقًا»، بحسب الشاعر شيلى، الذى قدمه حرا ومتمردا.

كما قدمنا شيخنا «عبد ربه»، بطل «أصداء السيرة الذاتية»، وكيف يواجه الإنسان نفسه مكاشفا إياها بما لها وعليها... فى مقالنا اليوم ننتقى روايتين كتبتا فى سياقين مختلفين... الأولى: «صبى سعيد» للمبدع الشامل (مسرحى، وشاعر، وروائى، ومناضل سياسى) النرويجى «بيورنشتيرن بيورنسون» (1832 ــ 1910)، أول أديب نرويجى يحصل على نوبل للآداب عام 1903، (والثالث فى ترتيب أدباء نوبل). والثانية: «زوربا اليونانى» للأديب ـ الفيلسوف ــ اليونانى «نيكوس كازانتزاكيس» (1883 ــ 1957)... حيث يقدم كل منهما نموذجًا إنسانيًا ثريًا. الأول: «محب المعرفة»، السعيد... والثانى: «محب الحياة»، المدهش...

(2) «أويفنيد وحب المعرفة»؛

يقول «الصبى السعيد»، فى إحدى رسائله، التى يرد بها على الفتاة التى عرفها طفلًا، أثناء دراسته الجامعية للزراعة، ما نصه: «... يجب أن تعرفى أننى لم أعد ذلك الشخص المُستكين الذى كان جالسًا يشاهدك وأنت ترقصين. لقد أصبحت أكثر صلابة منذ ذلك الحين»... «إننى أعمل بطاقة ثلاثة أشخاص، ولن أتخلف عن أى عمل! ولكننى يجب أن أُطلعك عن حبى»... هذا هو (أويفنيد) الذى جعله العلم أكثر جرأة فى التعبير عن مشاعره. وأكثر صرامة فى ضبطها عند اللزوم... فكل شىء جديد رآه وتعلمه فى أثناء غيابه الطويل عن المنزل أثر فى خياله وفهمه، وغيّر كثيرًا من سلوكه المعتاد، كما أن ملكاته التى كانت ساكنة فيه نشطت بعد طول خمود، وصار عقله فى حالة نشاط دائم»... فلقد صار يعيش حالة من التعلم الدائم... إن نموذج أويفنيد يعكس من جهة حياة المؤلف «بيورنشترن» الذى شارك فى التأسيس للنهضة والحداثة النرويجية التى انطلقت مع مطلع القرن العشرين. ومن جهة أخرى النموذج الذى يجب أن يقتدى به كل مواطن نرويجى من أجل تقدم وطنهم... إنه نموذج للأدب فى فترة النضال الوطنى النرويجى. وحسنا فعل الأديب والمترجم المبدع الأستاذ ياسر شعبان فى تقديم أدب «بيورنسون» للقراء بالعربية للمرة الأولى (هيئة الكتاب ــ 2019). خاصة أنه لا يقل أهمية عن «إبسن». وله جائزة سنوية تحمل اسمه تمنحها الأكاديمية النرويجية للآداب وحرية التعبير. (وإن شاء الله، نتحدث عنه مرة تفصيلًا)...

(3) «زوربا وحب الحياة»

على الجانب الآخر، نرى نموذج «زوربا» العاشق لكل ما تتضمنه الحياة من زخم. والمغامر المجنون الدؤوب على فك شفرات هذا الزخم دوما. ما أكسبه ــ عمليًا ــ حكمة حية مختبرة «من الواقع ــ وفى الواقع»... فلقد جُبل «زوربا» ــ كما رسمه كازانتزاكيس ــ على أن يكون مكتشفا لعمق أعماق الحياة... ما متعه أن تتولد لديه القدرة على أن يكون مصدرًا للتعليم والتوجيه لكل من حوله. وهو ما جسّدته علاقته بالبطل ــ المقابل له فى الرواية ــ المثقف القادم من حقل المعرفة الفلسفية المدونة... هكذا عاش «زوربا» بالفطرة، مجربا، ومتذوقا، ومواجها،...،إلخ. وكاسرا لكل التقاليد... لم يكن يُخفى تناقضاته. وحده، الإنسان الطبيعى من يدرك أنه كتلة من لحم ودم وخير وشر وأن الحياة هى محصلة الأسود والأبيض. ولكن عشقه للحياة والتجريب تكسبه حكمة أن يميل إلى إسعاد من حوله. وأن يأبى «التهرب من مواجهة الخطر»... «لأنه شىء مخجل»... يواجه الحياة وأعباءها بمزيد من التركيز والانشغال بكيفية تجاوزها... وتنبع جديته من أنه يأخذ الدنيا كلعبة يلهو بها... يستمتع بحياته دون أن تقيده فكرة امتلاكها... ما دفع «كازنتزاكيس»، «المدهش» يكتب فوق قبره العبارة التالية:

«لا آمل فى شىء...لا أخشى شيئًا... ولا أتوقع شيئًا... فأنا حر»...

وبعد، حب المعرفة يمنحنا التقدم... وحب الحياة يحررنا...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern