(1) «الحراكية المواطنية»
تميز حراك 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 الذى انتفض فى لبنان، بأن هناك كتلة مجتمعية تمثلت فيها كل ألوان الطيف اللبنانية. باتت تئن من سوء الأحوال المعيشية. ورأت أن تعبر عن همومها معا عبر المجال العام وليس عبر الطوائف التى ينتمى لها كل لون من هذه الألوان. فلقد أيقنت أن بلوغ الحياة الكريمة هو حق وليس امتيازا.
وإن انتظار الحصول عليه عبر الطوائف يعنى انتظار المنح من «زعامات» الطوائف السياسية والدينية والمذهبية.. وبقدر موالاة الفرد وتبعيته بقدر ما يرتفع نصيبه من هذه المنح. لذا ليس غريبا أن تردد عناصر الكتلة الحراكية عبر أحاديثها وهتافاتها أننا «ما بدنا بعد» الحصول على حقوقنا عبر «بوابة الزعيم/ المرجعية» أو «الطائفة» بمؤسساتها: السياسية، والدينية، والثروية.. «نحنا نريد دولة» تقوم بواجباتها نحو مواطنيها بعدالة ومساواة وفق خطة تنموية إنتاجية شاملة وسياسات اجتماعية حكومية حقيقية للوطن اللبنانى.. فى هذا السياق، تحرك اللبنانيون من أجل تأسيس جديد للبنان يقوم على المواطنة.
(2) «تعرية الطائفية»
فى هذا السياق، انتفض «الحراكيون اللبنانيون» من: الشباب، والفقراء، والفاعلين المدنيين الحداثيين؛ للمناداة بتغيير الوضع. لأن استمرار الحال من المحال. وكان سندهم فى ذلك سوء الأوضاع الاقتصادية ووصولها إلى وضع غير مسبوق فى تاريخ لبنان الذى يحتفل بمئوية تأسيسه العام القادم. وتسلح الحراكيون بالسلمية التى تتسم: بالغضب، والوعى والكشف عن لبنان الآخر.. غضب لما آلت إليه أحوال البلاد والعباد.. ووعى بأن تفكيك منظومة الطائفية يكمن بكشف ملفات الفساد التى تؤمن للسلطويات الطائفية البقاء والهيمنة. وكيف أنها شبكة عنكبوتية تتداخل فيها المصالح. حيث يتم تقاسم الموارد على مراكز هذه الشبكات. الأهم أن هذه المراكز تعتبر نفسها هى الوسيط الرسمى بين لبنان وبين أى مال يتدفق من الخارج إلى الداخل.. وأخيرا اعتمد «الحراكيون» على كشف الحقائق عن أن هناك الفقر الذى داهم اللبنانيين فى غفلة من الزمن. وأن هناك لبنانا آخر يعانى شبابه من البطالة، حيث لا تتوفر لديه فرصة علاج أو تأمين أو معاش.. ولعل أقسى ما عراه «الحراكيون» هو كشفهم عن الفشل الذى طال اقتصاد الخدمات وضعف القدرة على إدارته.. تم هذا بأساليب وتقنيات عصرية وعلمية تخاطب العقل. تعلن الحقائق موثقة بالرأى العام.. فلقد تعلم «الحراكيون» من تجربة حراك 2015 التى انطلقت فى مواجهة أزمة النفايات من خلال حركة «طلعت ريحتكم»، وغيرها من حركات. حيث استطاعت الشبكات الطائفية من احتواء حراك 2015. بينما فى هذه المرة ونظرا لاتساع الحراك كميا ونوعيا. فلم يعد مقصورا على ساحات بيروت الكبرى وإنما امتد إلى طرابلس وصيدا وصور وإلى الجبل. بينما فى هذه المرة طال أمد الحراك حيث اقترب من الشهرين (54 يوما وقت كتابة هذا المقال).. ولكن هل يعنى ذلك القبول الطائفى بالحراكية المواطنية السلمية؟.
(3) «رؤوس الطائفية تطل من جديد»
كان من المفترض أن تكون «الطائفية» محطة فى اتجاه الانتقال إلى دولة المواطنة كمحطة نهائية يصل إليها ــ بسلام ــ الوطن اللبنانى بمواطنيه. إلا أن الستين يوما الماضية تشير إلى أن الطائفية تتسم «بمؤسسية» عميقة جدا فى لبنان. لها منظروها، وتكنوقراطيوها، وقانونيوها، وقاعدتها الاجتماعية الجاهزة للانقضاض على من هم خارجها.. فلا مانع من الاعتراف بأن مطالب الحراكيين محقة وأن الواقع الاقتصادى والاجتماعى كارثى. إلا أن هذا لا يمنع من المراوغة والمناورة والاتهام بالعمالة واستخدام العنف حينا للالتفاف على مطالب الحراك. ولكن أخطر ما حدث هو البيانات والتصريحات التى تم تداولها- الأحد الماضى ـ وتعكس ارتدادا صريحا إلى الطائفية الدينية والمذهبية لمواجهة الحراكية المواطنية ذات المطالب الاجتماعية من جهة. وتجدد التصلب الطائفى العميق الذى بات مهددا من جهة أخرى.. وتبين أن عدم الانتقاص من الطائفية وامتيازاتها أهم بكثير من الوطن.