(1) «الدولة فى خدمة الطوائف»
قامت لبنان على صيغة «توفيقية» بين الطوائف. فجاء تشكل لبنان الكبير سنة 1920 «كتجمع بين الطوائف» أكثر منه دولة مواطنة تضم مواطنين. وجاءت الوثائق الدستورية ــ الميثاقية بالتعبير اللبنانى الشائع ــ لتكرس أكثر فأكثر المعادلة الطائفية من خلال «المحاصصة».
أو توزيع الحصص السياسية والاقتصادية على كبراء هذه الطوائف. الذين بدورهم يقومون بتوزيعها على من يتبعونهم وفق درجة الولاء التى يبديها هؤلاء الأتباع. وهكذا نظام لا يمكن أن يعيش ويستمر إلا بشروط ثلاثة: أولها: نظام سياسى طائفى: عائلى ودينى ومذهبى. ثانيها: اقتصاد ريعى وغير إنتاجى. يعتمد على «إقطاع مالى» غامض المسارات. حيث يتمركز فيه المال فى مراكز الطوائف بوجهيها الدينى والسياسى. ثالثها: انغلاق كل كتلة طائفية على نفسها. ما يحول دون أن يندمج اللبنانيون فى مجال عام يسمح بانخراطهم فى العمل المشترك. بالطبع لم يمنع هذا من أن تتشكل الدولة بمؤسساتها المتعارف عليها من: جيش، وجهاز إدارى، وقطاع اقتصادى،...، إلخ. ولكن كانت دوما هذه المؤسسات الحديثة إما تخضع للنظام «الطائفى» بموازين قوتها المتغيرة. أو فى أحسن الأحوال يتم تحييدها أو تركها تمارس أدوارها الحديثة فى الحد الأدنى الذى لا يتعارض مع الصيغة اللبنانية ومعادلتها المعقدة التى قامت عليها... ومن ثم أصبحت كما يقول مهدى عامل فى كتابه «فى الدولة الطائفية» ما نصه: باتت «الدولة تؤمّن ديمومة الحركة فى إعادة إنتاج الطوائف كيانات سياسية».
(2) «حصاد المسيرة فى مئوية لبنان»
كعادة الأبويات المختلفة فى منطقتنا لم تلحظ، وربما لم ترد أن تلحظ، كيف أن هناك كتلة مسحوقة قد تبلورت عبر مسيرة لبنان الكبير ــ والذى تمر 100 عام على تأسيسه فى 2020 ــ ترفض الاستمرار فى العيش «كرعايا» وفق طائفية تتم ممارستها عبر آليات الدولة الحديثة. فلقد تشكلت «كتلة مدنية» رافضة لاستمرارية الطائفية التى أدت بلبنان إلى حافة الانهيار. وتتشكل هذه الكتلة المدنية من عدة مكونات كما يلى: أولا: النخب التى تعلمت تعليما عصريا وتمتعت بقدرات متميزة. وتريد أن تحقق ذواتها بإمكانياتها وليس عبر التبعية الطائفية أو القرب من الدائرة المركزية للطائفة. ثانيا: جيل الألفية الجديدة الذى يتواصل مع بعضه عبر تقنيات التواصل المتجددة مخترقا كل الحواجز والموانع. مكتشفا أن هموم جيلهم على اختلاف انتماءاته واحدة. وأن القيم التى يحملونها واحدة. أى قيم الحداثة والمدنية من: شفافية، ومحاسبة، ومراجعة، وكسر الشمولية،...، إلخ. حيث يحلمون بجعلها موضع التطبيق العملى على الجميع دون تمييز. وفى إطار مجال عام واحد يستظلون به. ثالثا: الفقراء الذين أنهكهم الفقر والقهر. ويجمع الشرائح الثلاث السابقة الرغبة فى التحرر من أسر الطائفية، والتبعية. فجاء حراكهم «عابرا» للطوائف والأجيال والطبقات والمناطق (إنها الكلمة التى استخدمناها كثيرا فى وصفنا لحراك يناير المصرى واعتمدناها فى كتاباتنا آنذاك).
(3) «هل يطول الشتاء؟»
كما أن سُنة الحياة هى تداور فصول العام. فظنى أن هناك «ربيعا» قادما ــ ربما لا يكون مكتملا أو سريع القدوم ــ إلا أنه آتٍ آتٍ... أقصد «الكتلة المدنية» التى تعبر عن لبنان جديد يقوم على المواطنية لا الطائفية. نعم لا يزال أنصار الطائفية يقاومون بنفس المناورات القديمة التى مكنتهم من البقاء لمائة سنة. وأن هناك من لم يزل يراهن على أن الربيع المحتمل سوف يدحره شتاء قارس طويل ويجور عليه بغض النظر عن أية تداعيات مؤلمة. ولكن المتابعة المتأنية للكيفية التى تدير بها الكتلة المدنية لحراكها الممتد كميا والمتمدد كيفيا سوف يدرك أنه على الأقل قد بدأ خريف الطوائف... ونواصل حول تكنيكات تفكيك الطائفية التى يمارسها «حراكيو» 17 تشرين أول (17 أكتوبر) من أجل لبنان جديد.