لبنان: الصياغة والمعادلة التاريخية

(1)
بحبك يا لبنان

من أكثر البلدان التى ارتبطت بها «لبنان». فعلى مدى ربع قرن وأنا أقوم بزيارته بشكل دورى. ففى عام 1995 تقلدت منصب الأمين العام المشارك لمجلس كنائس الشرق الأوسط. وكنت على مدى ستة أعوام أسافر إلى لبنان بانتظام بحكم العمل مرة كل شهرين.

ومنذ 2001 وإلى الآن، لم تنقطع زياراتى له. وإن تعددت الأسباب. تارة لحضور ندوات أو مؤتمرات. وتارة للمشاركة فى أعمال اجتماعات دورية بصفتى عضوا فى أكثر من مجلس أمناء لمؤسسات بحثية وفكرية وحوارية. ويمكن القول إننى تعايشت مع كل ما مر «بالبلد العتيد» من مواقف وأحداث داخلية وإقليمية خلال هذه الفترة، كما شهدت تحولاته «السوسيولوجية»: الجيلية، والسياسية، والثقافية،...، إلخ.. أحببته بالرغم من تناقضاته الحادة التى تتراوح بين المدنية المُفرطة والتقليدية العميقة. حيث يتجاور القديم والجديد فى نفس الوقت فكريا ومؤسسيا. وهو الأمر الذى يتجسد فى لغة الناس فى حياتهم اليومية من حيث الجمع بين مفردات شديدة الخصوصية وأخرى فرنسية. ويشترك فى ذلك المتعلم وغير المتعلم، ابن/ بنت «الضيعة» وابنة/ ابن بيروت وطرابلس،.. إنها الصيغة والمعادلة التى قام عليها لبنان تاريخيا، فما هى هذه الصيغة؟.

(2)

تجمع طوائف لا وطن

ما ذكرته فى الفقرة السابقة هو خلاصة فكرة ــ أظنها تأسيسية لفهم لبنان ــ سطرها المفكر والناقد الكبير الدكتور غالى شكرى (1935 ــ 1998)، فى كتابه الرائد «عرس الدم فى لبنان ــ 1976»؛ ولعله من أهم ما كتبه مثقف مصرى عن لبنان.. قرأته مبكرا ــ ربما مطلع الثمانينيات ــ وأعدت قراءته عند بدء زياراتى الدورية إلى لبنان عام 1995. ملخص الفكرة يتعلق بطبيعة الواقع اللبنانى الذى يقول «غالى شكرى» بأنه «يحتوى على تناقض مثير، بين مستوى ونوعية الوعى، ومستوى ونوعية الثوابت الرواسخ فى البناء الاجتماعى».. ويقينى أنها فكرة كاشفة لكثير من المساحات المُعتمة لدى الكثيرين خاصة عندما يتصدون للشأن اللبنانى.. فدولة لبنان الكبير (تأسست بحدودها الحاضرة فى الأول من سبتمبر 1920)، لم يكن «توحيدا أصيلا لوطن، بل كان ولا يزال معادلة توفيقية بين الطوائف. فكان لبنان «تجمع طوائف» أكثر منه وطنا جامعا للمواطنين.. ويتشكل نظام سياسى/ اجتماعى تحكمه الطوائف ومصالح كل طائفة على حدة. لا أولويات الوطن ومصالحه العليا. إذن، ونظرا للصياغة الطائفية للبنان، تبلورت معادلة سياسية لنظام طائفى يتسم بما يلى: أولا: حلت محل المواطنية الهوية الطائفية. ثانيا: محورية الفرد التابع للطائفة لا المواطن الفاعل فى الوطن. ثالثا: انتفاء فكرة الأكثرية والأقلية على أساس المصالح بحسب غالى شكرى، «الجوهرية المصيرية: الوطنية الاقتصادية الاجتماعية السياسية». رابعا: تم توظيف كل ما أنتجته الحداثة من سياقات ومؤسسات لصالح الفكرة الطائفية.. وبالنتيجة كان من الطبيعى أن يستلهم ويستعير المؤرخ الكبير الراحل الدكتور كمال الصليبى (1929 ــ 2011) إحدى آيات الكتاب المقدس «فى بيت أبى منازل كثيرة»؛ لوصف المسألة اللبنانية فى كتاب عنوانه: «بيت بمنازل كثيرة ــ 1990». ويعد هذا الكتاب بالإضافة إلى كتاب آخر عنوانه «تاريخ لبنان الحديث ــ 1967» من أهم الكتب التى تناولت تاريخ لبنان وقد نُصحت بقراءتهما عند بدء سفراتى إلى لبنان.

(3)

سلطة الطائفة والنزوع الفردى للحداثة

وبالرغم من الصياغة الطائفية للبنان إلا أن هذا لم يمنع بحسب «جورج قرم» أن ينفتح اللبنانيون، على اختلاف طوائفهم، على التأثير الثقافى الأوروبى وعلى ازدهار الاتجاهات الأيديولوجية». ما جعلهم روادا فى العديد من المجالات وأن يشاركوا بفاعلية فى التأسيس النهضوى العربى.. وللوهلة الأولى يبدو وكأن هناك تناقضا بين التركيب الطائفى التقليدى للبنان وبين النزوع الحداثى للأفراد. بيد أن التأمل العميق يشير إلى أنه لا يوجد أى تناقض. ذلك أنه طالما لا يتعارض النزوع الحداثى الفردى مع السلطة الطائفية وربما يتم توظيفها فلا ضرر.. ونواصل.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern