(1)
«بين مدينتين»
نواصل مع الأخ العزيز الكبير المؤرخ والأديب الدكتور خالد زيادة تأصيله الفكرى لمسار المدينة العربية فى القرن العشرين وإلى الآن، من خلال مؤلفه القيم: «المدينة العربية والحداثة» (رياض الريس للكتب والنشر ــ 2019). فى نهاية الفصل المعنون «التحديث» يقول: «أخذ الانقسام بين مدينة قديمة ومدينة حديثة يتلاشى، فالقديمة تفقد خدماتها ووظائفها تدريجيا، وسوقها تتحول سوقا شعبية ومعالمها تصير آثارا سياحية. وفى جميع الأحوال،
تتضاءل مساحتها وتنكمش، لا بسبب أعمال القضم والهدم وتوسيع الطرق وإزالة بعض الأحياء، بل بسبب الاتساع المطرد للمساحات السكنية التى لا تنفك تنمو فى الاتجاهات كلها. كانت أعداد سكان المدن القديمة تتراوح بين الآلاف وعشرات الآلاف، وتتجاوز المائة ألف أو المائتى ألف نسمة فى مدن قليلة مثل القاهرة وحلب واسطنبول». ومع مرور الوقت أصبحت أعداد هذه المدن بالملايين فى بعضها. وعليه «لم تعد تحتل المدينة القديمة سوى حيز مكانى ضئيل ومحدود». حيث حوصرت من قبل المدينة الحديثة التى توسعت بميادينها وساحاتها العامة ذات النشاطات الحديثة مثل: «المدرسة، والمصرف، والمقهى، والسينما، ومركز السلطة» و«الصحف، والمطابع، والجمعيات»، والنوادى، ومؤسسات الدولة ومرافقها، والفنادق، ومسارات المواصلات الحديثة،...،إلخ.. خاصة مع تبلور طبقات وسطى صاعدة.. وهكذا انتقل الإنسان العربى من حيز مدينى قديم إلى آخر حديث.. ولكن...
(2)
« المدينة العشوائية»
ومع مرور الوقت لم تستطع المدينة العربية أن تحافظ على تحديثها/ حداثتها الناشئة. فبالإضافة إلى أنها باتت «مركزا للنشاطات التجارية والثقافية»، والسياسية والمدنية ذات الطابع العصرى، فإنها كانت جاذبة «للهجرة الداخلية». وعن تلك الهجرة تمددت المدن والعاصمة نحو الضواحى التى تضم أبناء الريف «الوافدين». ويفرد «زيادة» الفصل الخامس لقراءة ما جرى للمدينة العربية من خلال مقاربة، غاية فى التكثيف والعمق، عبر أدبيات: التاريخ، وعلم الاجتماع، ونظريات الحداثة. ليس فقط من جانبها النظرى وإنما التطبيقى/ الميدانى. فبعد أن يتناول رؤى ماكس فيبر، وجورج بالانديه، ودوركايم، ورواد علم الاجتماع الحضرى أو المدينى (نسبة للمدينة). فالمحدثون مثل: هنرى لوفيفر مؤلف الكتاب الشهير «الحق فى المدينة». وآلان تورين والجغرافى والأنثربولوجى الأشهر ــ الآن ــ ديفيد هارفى صاحب «مدن متمردة»، (وقد قدمناه للقارئ العربى مبكرا ـ عام 2015 ـ من خلال تقديمنا لكتابه عن 17 تناقضا لنهاية الرأسمالية)، وآصف بيات، ومايك ديفيز. كذلك إلى عدد من المؤرخين العرب، فإن «زيادة» يخلص إلى أن المدينة العربية الراهنة تفتقد أى تخطيط منذ ستينيات القرن الماضى. ويدلل على هذه المقولة من خلال تتبعه المكثف لمسار المدينة العربية من خلال جدل القوى/النخب المتعاقبة مع المكان.. ويرصد ثلاث مراحل مرت بها المدينة العربية كما يلى: الأولى: بدأت فى القرن الـ19 مع التحديث الذى أطلقته القوة/ النخبة التقليدية، والثانية: فى ظل الاستعمار، والثالثة: فيما سماه مرحلة نزع الاستعمار.
(3)
«الارتباك العمرانى»
إذن، فمنذ ستينيات القرن الماضى مورست «إعاقة عملية تخطيط المدن»، حيث «مبادئ التخطيط السليمة لم تُهمل فحسب، بل كانت تُخالف عن عمد أيضا».. وفى هذا المقام يستعيد رؤى الكثير من الخبراء الوطنيين مثل: حسن فتحى، وسابا شبر وجانيت أبو لغد، وجليلة القاضى. حيث أجمعوا على مدى ما أصاب المدينة من عشوائية، وقبح، وتشوه، وتراجع مهنى فى مجال التخطيط العمرانى والتصميم المعمارى.
ويختم خالد زيادة كتابه قائلا: «جرى هذا كله فى غضون بضعة عقود من الزمن، بسبب التحديث المتسارع وإخفاق خطط التنمية وإهمال الريف. ولم يكن ثمة ما يوقف هذا التطور الذى جابهته السلطات بالتجاهل وتشريع العشوائيات، والتغاضى عن تطبيق القانون».. ما أصاب العمران العربى بالارتباك.. فلا الريف ظل ريفا.. ولا المدينة بقيت مدينة.. وتوزع المواطنون بين العشوائيات والمدن المسَورة. المدينة العربية والحداثة ليس كتابا عن ما جرى للمدينة فقط، وإنما هو عن ما جرى لمواطنى المدينة.