ماذا جرى للمدينة العربية؟.. (2)

(1) «مدن فى حال تحرك وتبدل»
بدأنا فى استعراض الدراسة القيمة والهامة حول المدينة العربية للمؤرخ والأديب والدبلوماسى الأخ العزيز الكبير الدكتور خالد زيادة، والتى يحاول الإجابة فيها عن سؤالين كبيرين هما: ماذا تبقى من الماضى المدينى وتقاليده؟.. والثانى: ما هى حال حداثتنا المدينية والعمرانية؟.

وذلك من خلال مؤلفه الأحدث «المدينة العربية والحداثة» (2019). ما استلزم من المؤلف قراءة التطور الاقتصادى والسياسى والثقافى للمدن المتوسطية والعربية والإسلامية ليؤكد على العلاقة الوثيقة بين التحولات السياقية وأثرها على تشكل المدينة القديمة. فلقد كانت التفاعلات السياسية وتطوراتها فى كل مدينة على حدة وفى إطار الإمبراطوريات الحاكمة وخاصة فى الحقبة العثمانية، من صراعات سياسية فى الداخل ومع الخارج، تنعكس ماديا على حالة المدينة/ أحوال المدن. ولعبت تلك العناصر المادية من: أسواق، وقلاع السلطة والسكن، وباحات، وميادين،...، إلخ، دورا فى هذه التفاعلات. فكانت عنصرا مشاركا من خلال هندستها المعمارية كشريك فاعل ومؤثر فى حركة ومسار هذه التفاعلات. تارة بتأمين الحماية. وتارة ثانية بتوفير التحصن،...، إلخ. ومن جانب آخر كانت هناك علاقة بين درجة الرخاء أو التوتر الاجتماعى وبين طرز المبانى والقصور ودور العبادة. كذلك نوع النخبة ومدى درجة تعليمها وبين المدينة... وهكذا يرصد لنا الكتاب (كما أشرنا الأسبوع الماضى) ويتتبع التطورات المبكرة التى عرفتها بعض المدن فى شرق المتوسط فى العصر العثمانى فى القرنين السابع عشر والثامن عشر والتى كانت دوما فى حالة حراك وتبدل. وأثر النخب الحاكمة السياسية والانكشارية وأعيانها على أحوال المدن التى كانت هذه النخب تحكمها وهؤلاء الأعيان يعيشون فيها صعودا وهبوطا. وأثر الحضور الغربى فى تطوير المدينة العربية.

(2) «الطريق لتطويع المدينة»

حول هذه الفكرة التى شرعنا فى الحديث عنها فى الحلقة الأولى ونفصلها، يقول الكتاب فى الفصل المعنون بـ«التحديث» ما نصه: «ليس التحديث تقليدا لنمط البناء الإيطالى أو الفرنسى،...، بل يبدأ باكتساب أو فرض تشريعات وإجراءات صادرة عن رؤية ونظام مغايرين لما درجت عليه المدن طوال قرون من الزمن، وهذا ما حدث أول مرة فى مدينة عربية مع إجراءات بونابرت فى القاهرة»، وذلك من: «تفكيك بنية المدينة التقليدية بنزع استقلالية الحارات وإزالة البوابات الفاصلة بينها. واعتبار المدينة وحدة إدارية تديرها هيئة من أبنائها تمثل قطاعات مختلفة. وهندسة عقلانية للمدينة، بإقامة الطرق المستقيمة والجسور والحدائق والمنشآت الوظيفية، كمقر الحكم والمستشفى والمطبعة».. من هنا يبدأ «تطويع المدينة»...لا من الناحية الأمنية فحسب، أى جعلها خاضعة للسلطة، وإنما من ناحية إلحاقها بالإجراءات البلدية أيضا، مثل النظافة وإيصال مياه الشرب ومعالجة الصرف الصحى. ولأن هذه الإجراءات لها حدود لا يمكن تجاوزها. «إذ يصعب توسيع الدروب الداخلية والأزقة والأسواق حتى»...لكن «رغبة سكان الأحياء الداخلية الخروج إلى الشوارع العريضة والمبانى الغربية المواصفات، مثل استقلال المنزل السكنى وإطلالته على مناظر على مناظر خارجية، وتمتعه بشرفات زجاجية تستقبل النور»... وتزامن ذلك مع «التخلى عن أدوات منزلية عتيقة واستبدالها بما هو عصرى»... كما فرضت أنظمة الإنارة والمياه والصرف الصحى هندسة منزلية جديدة، وهكذا.

(3) مواجهات المدينة الحديثة

ووجهت المدينة الحديثة الآخذة فى النمو إلى أمرين هما: الأول: دعوة غامضة، بحسب خالد زيادة، داعية إلى التراث والتى «تتراوح دلالتها بين التراث الدينى والثقافى والمادى. ومن هنا الدعوة إلى الاهتمام بالمدينة القديمة التى لم تعد جاذبة للسكان». والثانى: دعوة متطرفة، مفادها إزالة المدينة القديمة. وهى دعوة واكبت عدم «اكتراث السلطات الوطنية بالمدن القديمة». التى أعطت أولوية «لتسريع النمو الصناعى والتجارى وتوسيع الجهاز البيروقراطى»... ما زاد الهجرة إلى المدينة من الأرياف وخاصة من قبل الفقراء الباحثين عن فرص نوعية مختلفة. فاتسعت معه المدينة الحديثة التى أصيبت بتمدد ضواحيها الفقيرة والعشوائية... وفاقم من الأمر تراجع التسارع التنموى.. نواصل.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern