(1) «ناس المدن: ساعات... آلات»
يقول شاعرنا المتمرد دوما «أمل دنقل» (1940 ــ 1983) عن المدينة فى قصيدة «ماريا» (فى ديوان: «مقتل القمر» ــ مطلع الستينيات): «الناس هنا ــ فى المدن الكبرى ــ ساعات: لا تتخلف ـ لا تتوقف ـ لا تتصرف...آلات، آلات، آلات»... بالرغم من حدة الوصف إلا أنه يصف إنسان مدينة الستينيات الصناعية المتطلعة للمستقبل بأمل. المدينة المواكبة قدر الإمكان للحداثة. والحداثة التى نقصدها هى قيم ومعايير الرأسمالية التى تفرض هذه الحدة. فالمواطن المدينى (نسبة للمدينة) فى إطار علاقة جدلية صراعية معقدة مع الاقتصاد والواقع الاجتماعى صنع المدينة. حيث ولد فى سياقها: المعمل، والمصنع، وضرورة الابتكار تحت ضغط التنافس. ومن ثم التخطيط والدراسة لكل فعل. وتنظيم المدن، والتخطيط المعمارى والمرورى، وضبط المساحات،...،إلخ. وكلها أمور تتناقض مع الريف وقيمه الزراعية...والسؤال الذى يطرح نفسه هنا ألا يزال «ناس المدن: ساعات...آلات»؟!.
(2) «أزمة المدينة والحداثة»
فى هذا السياق، يواصل المؤرخ والأديب والدبلوماسى الأخ العزيز الكبير الدكتور خالد زيادة (1952 ــ ) دراسته العامل عليها عبر مؤلفاته ورواياته على رصد تحولات وأحوال المدينة العربية. وأن يجيب عن السؤالين التاليين: الأول: ماذا تبقى من الماضى المدينى وتقاليده؟... والثانى: ما هى حال حداثتنا المدينية والعمرانية؟. وذلك من خلال مؤلفه الأحدث «المدينة العربية والحداثة» (2019). حيث يجيب إجابة أولية من خلال المقدمة يقول فيها: «كنت أظن مثل أبناء جيلى أن الفرصة متاحة لاستيعاب الحداثة الأوروبية، وكنت ما أزال أحتفظ فى نفسى ببعض التفاؤل الموروث عن ستينيات القرن العشرين، حينما كان كل شىء يبدو فى حال تقدم متصاعد، فى السياسة والأدب والفن،...،إلخ. وفى ذلك الوقت، كان العالم يحقق إنجازات فى الميادين كلها، بما فى ذلك الثورات الشعبية والطلابية. وكنا على اختلاف مشاربنا نعتقد أن أفكار أوروبا ليبرالية كانت أم اشتراكية، تصلح كطرق وقيم لتحقيق نهوضنا. وكانت مدننا لا تزال أمكنة صالحة للعيش، أو هكذا كنا نظن»...ولكن يضيف خالد زيادة: «تغير العالم تغيرا بيّناً منذ عقد التفاؤل ذاك وحتى يومنا هذا»؛...فما جرى لمدينتنا، العربية، الراهنة فى القاهرة، والإسكندرية، وبيروت، وبغداد ودمشق الكثير. فالمدن القديمة التى طالتها الحداثة لسنوات ــ فى هذه العواصم ــ بعضها «توارى، وبعضها تغيرت معالمه، والبعض الأخير تلاشى»... فالحداثة التى تطلع إليها جيل الستينيات ــ جيل التفاؤل بإمكانية الاستقلال الوطنى والاقتصادى ــ أصبحت «موضع شك وإعادة نظر فى القارة التى نشأت فيها، وبدأت آثار التحديث السلبية تظهر على شكل أزمات فى الضواحى، بما فى ذلك ضواحى مدننا الفقيرة، بسبب انعدام تكافؤ الفرص، وفشل خطط التنمية، والفساد الذى يلازم الحياة كلها»...وهكذا انعكس واقع المدينة على أحوال «ناس المدن». الذين ارتدوا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا فأصبحوا غرباء عنها فى حقيقة الأمر... ويتتبع خالد زيادة ما جرى للمدينة العربية والإسلامية منذ تأسيسها، ومسارها التاريخى، وما آلت إليه. وذلك عبر مقدمة وخلاصة وبينهما خمسة فصول تحمل العناوين التالية: أولا، المدينة الإسلامية: الإشكاليات والمصطلح. وثانيا، المدينة العثمانية. وثالثا، الأعيان. ورابعا، التحديث. وخامسا، المدينة من زوايا: التاريخ، الاجتماع، الحداثة.
(3) «الطريق لتطويع المدينة»
يرصد خالد زيادة ــ على مدى 250 صفحة من القطع الصغير وبتكثيف شديد ــ المدينة فى الفكر العربى والإسلامى. ويتتبع التطورات المبكرة التى عرفتها بعض المدن فى شرق المتوسط فى العصر العثمانى فى القرنين السابع عشر والثامن عشر والتى كانت دوما فى حالة حراك وتبدل. وأثر النخب الحاكمة السياسية والانكشارية وأعيانها على أحوال المدن التى كانت هذه النخب تحكمها وهؤلاء الأعيان يعيشون فيها صعودا وهبوطا. وأثر الحضور الغربى فى تطوير المدينة العربية.
للحديث بقية