أحزان ثقيلة...

(1) «ما أقسى رحيل الأمل»
ما أصعب رحيل من نُحب... وما أقساه إذا طال من هم فى أوج الحيوية والنضارة والعطاء وينتظرهم مستقبل واعد... إنه رحيل «من عمق أعماق الأمل» (بحسب الشاعر بول إيلوار)... الأمل بغد أفضل، والأمل بالنجاح والعطاء والإنجاز،... فى أقل من ثلاثة أسابيع رحل «ابن العشرين» «كريم» ابن السفيرة إيناس سيد مكاوى فى أول أيام عيد الأضحى الماضى... ولحقه مطلع سبتمبر الجارى «ابن الخمسين» الدكتور مصطفى اللباد... فكان رحيلهما مباغتا، وقاسيا، ومبكرا جدا...

(2) «كيمو النقى»

فى غمرة احتفاء محبى الصديقة والأخت الغالية معالى السفيرة إيناس سيد مكاوى بتكليفها أن تكون سفيرة للعرب فى إيطاليا بعد مجهود مُضنٍ ومبدع فى قطاعات الثقافة، والمجتمع المدنى، والمرأة، بجامعة الدول العربية، تشرفت بالمشاركة فى بعضها. يشاء الله أن يستعيد وديعته الملاك الشاب ابن العشرين ابنها كريم «كيمو الشاب النقى والطيب»، الذى رحل فى هدوء ودون ضوضاء وهو نائم. وكم كانت الصدمة كبيرة على الأم التى دخلت لتوقظه كى يلحق بأخويه للاحتفال معهما ومع الأصدقاء الذين كانوا بضيافتهم فى المصيف. وما فاقم من الرحيل: الصدمة، هو أنه كان قبلها بساعات رفقة والدته يقومان بشراء احتياجات المنزل ومتطلبات الضيافة. فلقد كان «كيمو» ـ كما كانت أسرته وأصدقاؤه ينادونه ـ خدوما ومحبا للعطاء ويتسم بالنقاء فى حالته المقترة. وهو ما شهد عليه حب أصدقائه له والتفافهم حوله. والتزامهم يوم العزاء بالاصطفاف معًا فى مكان واحد ـ رغم صغر سنهم ـ طول مدة العزاء تعبيرًا عن حزنهم الثقيل.

هو الابن المعين لأمه ولأخوته... كم كان مدى الألم الذى اعتصر الأم وأخوى كريم ولم يزل. ليس فقط بسبب صلة الدم وإنما - أيضًا - بفعل العلاقة الحميمية التى خلقتها الأم بين أولادها ليكون كل واحد منهم سندا للآخر ونافعا للعائلة والمجتمع. كذلك التنشئة المعرفية والإبداعية الملائمة التى أمنتها لهم ولكل واحد منهم بحسب قدرته وموهبته بانضباط ومحبة فى آن واحد.. كذلك التنشئة التى أمنتها لهم بالرغم من مشغولياتها واهتماماتها الوطنية والثقافية والإنسانية بالإضافة إلى المهنية. وقد عرفتها فى سياق هذه الاهتمامات إنسانة مُبادرة وخدومة فى هدوء. حيث جمعتنا لجنة الحقوق والحريات بمؤتمر الوفاق القومى عقب ٢٥ يناير، والعديد من الفعاليات اللاحقة فى فترة مهمة من تاريخ مصر (ربما يأتى الوقت للحديث عنها تفصيلًا)... كما تشرفت بمعرفة العائلة - التى بيسر - يمكنك أن تدرك أنها تحيا بنفحات من الإبداع والكرم والأريحية لعميدها الموسيقار سيد مكاوى...

وبعد، أثق فى أن الشاب الطاهر، وإن كان قد غاب بالجسد، إلا أنه سيبقى دومًا فى وجدان كل من عرفه. ويقينى أنه فى المكان اللائق بطهارته وحسن معشره وسيرته النقية. ولعل الحضور الحاشد غير المسبوق من طوابير العزاء ووفوده اللاحقة على مدى الأربعين يومًا الماضية - التى لم أر مثلها- تؤكد على عمق روابط المحبة لكريم وإيناس... كما أثق فى أن الله سيمنح إيناس القوة والصبر، ويخفف من ثقل الحزن، ويلهمها كيفية تكريم كريم ويدعمها فى مهمتها الجديدة ويسندها فى مصابها/مصابنا. ويبارك فى النابه محمد والموهوب سليم ويحافظ عليهما... وأن الكثيرين ممن يدينون لها بأفضال سوف يكونون خير معين لها...

(3) «مصطفى اللباد الباحث الكبير»

«إلى الأحلام التى استعصت، والمعانى التى استغلقت»؛ بهذه الكلمات أهدى مصطفى اللباد ـ ابن الخمسين ـ كتابه المرجعى البالغ الأهمية فى الشأن الإيرانى: «حدائق الأحزان: إيران وولاية الفقيه» (2006). وهى كلمات تحمل إدانة واضحة ومباشرة للواقع المجتمعى الذى نعيش فيه و«لأبنيته وأبوياته» التى تحول دون «تحقق الأحلام وإدراك القيم والأقدار»... إن الإهداء: الاحتجاج فى مقدمة عمل إبداعى مهم، يعكس حزنًا كامنًا لدى مصطفى اللباد أحد النابهين من «سلسال الإبداع» المصرى. عرفته أولًا من خلال بعض المثقفين اللبنانيين الكبار الذين عرفوا «مصطفى» مبكرًا وكنت آنذاك أشغل منصب الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط (نهاية التسعينيات). وأشهد كيف كان يحظى بمكانة كبيرة لدى النخبة الثقافية اللبنانية، خاصة مع توالى اجتهاداته ذات الرؤية المركبة للشأن الشرق أوسطى فى العموم وللشأن الآسيوى فى أبعاده: الإيرانية والتركية وجمهوريات آسيا الوسطى وامتداداتها. لم يكن «مصطفى اللباد» باحثًا نمطيًا بل رؤيويًا. لديه قدرات تحليل وتربيط عالية أتاحت له أن يكون مرجعًا استراتيجيًا معتبرًا. وأن تكون تحليلاته الأسبوعية فى «السفير» اللبنانية محل اهتمام ومتابعة دؤوب من كثير من الأطراف... ولأنه صاحب مشروع فكرى مستقل أسس مركز الشرق وأصدر دورية متخصصة فى الشأن الآسيوى هى «شرق نامة»... وقد تشرفت بالمشاركة فى أكثر من نشاط للمركز... وكان يأمل دومًا أن يسترد البحث العلمى والمعرفة والتحليل المستقبلى قيمته ومكانته ويلعب دورًا فى تقدم الوطن... ولكن جاء رحيله المباغت أيضًا ليزيد الحزن ثقلًا... تعزياتى لأسرته ولشقيقه الأخ العزيز الفنان الكبير أحمد اللباد.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern