«الستون: أكثر من عمر»

(1)
مشاوير عديدة ومسارات متعددة:

بلوغ «الستين» ليس إنجازا فى ذاته يستحق الاهتمام. فهو فى أفضل الأحيان سيتم الاحتفال به، كشأن الخمسين والأربعين وكل «اليوبيلات» السابقة عليه. مثلما سيتم الاحتفال بالسنوات التالية إذا قُدر له أن يعيش بعدها. أى أنه فى النهاية مجرد رقم كمى لا دلالة له فى ذاته، لكن الأمر سيختلف- حتما- إذا شعر المرء أن «مشوار العمر» على مدى العقود السبعة قد تضمن «مشاوير عديدة»: متداخلة، ومتكاملة، ومتوازية، ومتناقضة فى «مسارات» مهمة وثرية وملغومة ومؤثرة. أى لم يكن العمر نمطيا، أو خطيا، أو ساكنا، أو عاديا. وهذا لا يعنى أن المرء يعطى لنفسه قيمة بل بالأحرى «لمساحات الحركة» التى أُتيحت له أن يخوض غمارها بمشاعر مختلطةـ ولكن بإرادة واعيةـ رغبة فى الاكتشاف والتماسا للفهم. وكان الاكتشاف من خلال الانخراط فى خوض مساحات الحركة المتعددة لاكتساب المعرفة والخبرة عمليا ومن مصادرها الحية عاصما لى كثيرا من أن «أقضى الليالى معذبا نفسى» من أجل محاولة الفهم و«استخلاص المعنى/ المعانى» عن بعد. أى دون انخراط حى وعملى فى مساحات الحركة المتنوعة. فالفهم عن بعد على الطريقة «الدون كيشوتية» (نسبة إلى دون كيشوت) هى التى أدت به إلى «التهور وفقدان الصواب واللاواقعية وأحيانا السذاجة» بالرغم من النوايا الطيبة.

«2»

الاكتشاف ومحاولة الانجاز:

كانت عملية الاكتشاف، أعترف، بحساب، ولم تكن مجنونة. أو ما يمكن وصفه «بالمغامرة المحسوبة». وظنى أن الذى حكم هذا السلوك الذى رافقنى دوما. إنما يرجع لحاضنة التنشئة فى البيئة الأولى التى تنتمى إلى الطبقة الوسطى المدنية. ومن ثم كانت تتسم بخليط مركب بضرورة اتباع النظام Discipline؛. وفى نفس الوقت ضرورة «التميز». ما يعنى «الانضباط» والسعى من أجل الإبداع والخروج عن النص فى آن واحد. وهى الحالة التى وصفها بعمق شديد للأديب والمفكر اليونانى «نيكوس كانتزاكيس» (1883 ــ 1957)، فى «تصوف»؛ حيث يحمل الإنسان فى داخله «التناقض المبدع». ومتى أدرك ذلك، تتجلى قدرة الإنسان فى كيفية أن يُحكم الجدل بين التناقضات: حب الحياة ونهايتها المحتومة.. بين الإنجاز وترك بصمة مميزة للآخرين.. أى الخلود وبين التحلل وانتظار النهاية. إنها الحياة التى يتراوح فيها البشر بين «الخلق والابتكار، من جانب، والهدم والتدمير من جانب آخر». وإلى أى حالة ينحاز. أو ما وصفه بعناية «كازانتزاكيس» بما يلى: «لحظة أن نولد تبدأ رحلة العودة» أو النهاية. وهنا يبدأ التحدى الإنسانى الكبير إلى أيهما ينحاز المرء إلى: أولا: الانطلاق، والاكتشاف، والتركيب، والإبداع والتجدد ومن ثم الخلود الحقيقى. أم ثانيا: السكون، والتحلل، والموت، والنسيان.. إنها المعضلة الكبرى.. وحلها أن يأخذ المرء عمره المُقدرـ له أن يعيشه- مأخذ الجد سعيا لإنجاز حقيقى.

«3»

مشوار عمرى: ستينيات متعددة:

والنتيجة الحتمية لهذا الاختيار إذا ما تعددت «المشاوير» و«المسارات» فى مساحات حركة متنوعة أن «يتضاعف» العمر.. فيصبح العمر الواحد «أكثر من عمر»؛ توفر بفعل محصلة: مجموع المهن التى مورست، والمناصب بما تحمل من مسؤوليات وتعقيدات، والعمل العام، والخدمة العامة، والهواية،... إلخ. فى مجالات التخصص الدقيق، والسياسة، والدين، والثقافة، والإدارة العامة... إلخ. وكان الهم الحاكم فى التعاطى مع مساحات الحركة المختلفة هو «إدراك ما الذى يختبئ خلف الظواهر». و«كشف المستور عن دقائق الأمور». أى عدم الاعتراف بأية حدود للاكتشاف وإدراك الدواخل أو كما يقولون الرغبة فى معرفة سر الاختراع.. إنه، بحسب حلاج صلاح عبد الصبور(1931 ـ 1980) ــ اللقاء بين «شوق الصحارى العطاش/ بشوق السحاب السخى».. وهنا يأتى دور الكثير من الشخصيات المعتبرة التى وضعها القدر فى كل مساحة حركة وطئتها قدماى. فكان «النوال» الشافى عن كل «سؤال» عميق صافى.. ما أسهم كما قال «الحلاج» فى أن:

«... تتندى العروق ويلمع فيها اليقين.. فيخضر غصنى.. ويزهر نطقى وظنى...».

هذه كلمات أشارككم بها فى ستينيتى التى تحل منتصف هذا الشهر.. والتى وجدت فيها «مشوار عمرى أكثر من الستين».


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern