مع حركة الإنسان – المواطن- اليومية فى الواقع الاجتماعى – الوطن, صار للمواطنة دلالة موضوعية, كونها تعبيرا عن هذا الإنسان – المواطن فى سعيه الدءوب, بل نضاله, فى سبيل أن يشارك فى إدراة شئون واقعه/وطنه, وأن يكون على قدم المساواة مع باقى المواطنين الذين يتقاسم معهم الوجود على نفس النطاق الجغرافى, ويحمل معهم نفس التراث المشترك والجذور التاريخية, وعانوا معا من كل ما تعرض له الوطن من صعاب, وواجهوا نفس التحديات, إلا أنه فى كل الأحوالكانت المواطنة تمثل عامل تجميع, وتكامل, واندماج للتنوع وللتعدد, لقد حملت المواطنة الفعل والممارسة الحية للمواطن, من خلال الأدوار التى يقوم بها اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية والتى لايمكن أن نفصل فيما بينها بأى حال من الأحوال لتداخلها, ومن هنا فإنالمواطنة ليست قيمة مجردة نتحدث عنها فى الفراغ, إنما هى ممارسة حية مبادرة يمارسها الانسان: “المواطن” على أرض الواقع عمليا: “الوطن”.
والمواطنة لاتمارس بشكل عشوائى, وإنما من خلال مرجعية قانونية عليا تعرف تاريخيا بالدستور, ثم بالقوانين التى يتم تشريعها والتى توضع فى ضوء هذا الدستور, والمنوط بها تنظيم حركة المواطنين الذى يضمهم الوطن الواحد. وقد اتفق بشكل عام على أن للمواطنة ركنين: “المشاركة” و”المساواة”, فلكل مواطن نفس الحقوق, وعليه نفس الواجبات, ولكل مواطن الحق فى أن يشارك فى ادارة الوطن, بدرجو أو بأخرى, وأن يتقاسم الموارد مع الآخرين من المواطنين.
بيد أن “المواطنة”, لم تتحقق بقررارت فوقية أو سلطوية أو ولدت من رحم الصدفة والقدر, وإنما كانت ثمرة جهد وكفاح وحركة المواطنين, حدث ذلك فى الغرب, وفى الخبرة المصرية.
فالمتتبع لحركة المصريين عبر التاريخ سوف يجد مدى الجهد والكفاح الذى بذلته الجماعة الوطنية من أجل تحقيق المواطنة. فعلى مدى التاريخ,كانت المواجهة بين المصريين وحكامهم الأجانب, قبل دولة الاستقلال, من أجل استخلاص حق المواطنة, انها حركة ظل يراكمها المصريون عبر التاريخ حتى أثمرت, بداية من الارهاصات الأولى لتأسيس الدولة الحديثة فى بداية القرن التاسع عشر: مشروع محمد على, ثم فى تأسيس مجلس شورى النواب 1866, ثم فى لحظات النهوض الوطنى المتتالية بعد ذلك: حركة عرابى, ثورة 1919, ووضع دستور 1923, وثورة 1952, وحكم مصر بواسطة المصريين: فى كل هذه المراحل, كانت الجماعة الوطنية بمكونيها: “المسلمين والأقباط”, يشاركون معا فى التحرك نحو استخلاص المواطنة. على أن الراصد لمسيرة التكامل الوطنى بين المسلمين والأقباط سوف يلحظ مراحل أخرى تتأثر فيها مسيرة هذا التكامل. وفى تصورى أن المدخل المناسب لدراسة الأسباب التى تؤثر فى التكامل الوطنى المصرى هو “منظور المواطنة”, خاصة انها تواجه بمجموعة من الاشكاليات, نعرض لها لاحقا, تراكمت عبر سنوات, تعوق من ممارستها بشكل كامل, ومن ثم يتأزم الواقع السياسى وتتوتر العلاقات عند كل حادثة طائفية, أو جنائية تتحول إلى طائفية. والذى مما لاشك فيه أن مسيرة المواطنة – تاريخيا – لم تسر فى مسيرة منتظمة ونامية, فلقد أخذت فى التأرجح بين الصعود والهبوط على مدى المائتى عام الأخيرة, كما أوضحنا سالفا, كانت هناك لحظات صعود اكتسب فيها المصريون المواطنة وراكموها, إلا أنه كانت هناك لحظات أخرى تهددت فيها المواطنة. والقطعى أن المواطنة كقيمة عليا للحياة الديمقراطية فى أى مجتمع تتوقف الى حد كبير على ظروف الواقع المجتمعى وعلى مدى قدرة البناء السياسى (الدولة بمؤسساتها وكيانات المجتمع المدنى) على الاستجابة للبناء الاقتصادى- الاجتماعى السائد, فكلما كان البناء السياسى متسقا مع البناء الاجتماعى – الاقتصادى -, ارتبط ذلك بقدرة المواطن على ممارسة المواطنة وفى المقابل اذا شهد التطور التاريخى عدم توافق, فلإن ذلك يعنى تعثرا للعملية الديمقراطية و اعاقة للمواطن عن ممارسة المواطنة.
إن القارئ لتاريخ مصر الحديث والمعاصر يمكنه أن يرصد – بشكل عام – كيف تتواكب لحظات النهوض الوطنى مع قدرة المواطن المصرى على أن يمارس المواطنة والعكس صحيح, حيث يبدأ الالتباس ليس فقط حول المواطنة كممارسة بل يتعداه الى المفهوم, واذا كان المواطنون المصريون يتأثرون بذلك فإن المصريين من الأقباط يتأثرون أكثر, وبمراجعة مسار المواطنة فى مصر من خلال التطور الاجتماعى والسياسى مع الأخذ فى
الاعتبار مسيرة التكامل الوطنى المصرى وحركة الأقباط فى هذه المسيرة يمكن رصد مايلى:
– مرحلة بزوغ المواطنة/اقرارها من فوق: ونقصد بها فترة مشروع محمد على الذى مثل بدرجة أو بأخرى, البداية لميلاد الدولة الحديثة فى مصر, والتى شهدت بداية لتحقق التكامل الوطنى بين المصريين جميعا.
– مرحلة تبلور المواطنة/الالتفاف القاعدى حول المواطنة: ونقصد بها تجربة ثورة 1919, والتى أعطت للمواطنة مضمونا جماهيريا اجتماعيا, كما كرست فعليا مفهوم التكامل الوطنى بل تجاوزته الى الاندماج الوطنى بفضل التحقق العملى لشعار وحدة عنصرى الأمة.
– مرحلة المواطنة المبتسرة/ الاقتصار على البعد الاجتماعى للمواطنة: ويقصد بها الفترة الناصرية, تحديدا حيث اهتم النظام السياسى بتحقيق المواطنة فى اطار المشروع الاجتماعى لثورة 23 يوليو والذى ساوى بين الجميع فى فرص التعليم والعمل, ولقد استفاد الأقباط من هذه الفرص. إلا أن الثابت أنه قد تم تجاهل الجانب السياسى للمواطنة, وضعفت المشاركة السياسية. وقد تأثر الأقباط كثيرا الأمر خاصة بعد أن استحدث مبدأ التعيين ولأشخاص غير مسيسين كانوا فى الأغلب الأعن من التكنوقراط.
– مرحلة تغييب المواطنة/ تديين الحركة السياسية: ويقصد بها المرحلة الساداتية, والتى شهدت اعتمادا على الدين فى ادارة شئون الحكم, بداية من ارتداء البردة الدينية, أو استخدام سلاح الفتاوى الدينية لتبرير وتمرير القرارات السياسية, إلى اجراء تعديلات دستورية وتحديد الشريعة الاسلامية لتكون المصدر الرئيسى للتشريع. بالإضافة إلى شيوع المناخ الطائفى بسلسلة من الأحداث الطائفية المتكررة والممتدة حتى الآن, ومحاولة علاجها بتكريس الانشطار الوطنى علانية. الأمر الذى أثر سلبا, من جهة, على المواطنة, ومن جهة أخرى, على التكامل الوطنى.
– مرحلة المواطنة المستعادة/ محاولة استعادة المسار الطبيعى: ونقصد بها المرحلة التى نعيشها الآن, وهى مرحلة تشهد شدا وجذبا بين أطراف عدة منها من يريد استمرار الوضع السابق, ومنها من يريد أن تستعيد مصر مسارها الطبيعى فيما يتعلق بالمواطنة والتكامل الوطنى.
فى ضوء الخلفية التاريخية السابقة لمسيرة المواطنة وأمام ماتشهده على أرض الواقع من أحداث تبرز هنا وهناك, بين حين وآخر, فإن المواطنة تواجه بعدد من الاشكاليات التالية:
1- المواطنة واشكالية الطائفية:
مع بداية فترة السبعينيات بدأ الحديث عن الطائفية وتبلور مايمكن تسميته بالطائفية النصوصية والفكرية, حيث بدأ انتاج نصوص فكرية حول تقسيم البشر كل حسب دينه وما يستتبع ذلك من اعلاء لقيم طائفة على أخرى بما يتضمن ذلك من بذور عدم المساواة والرغبة فى التميز والتسيد على الآخر بل وممارسة العنف نحو الآخر بما يحقق نوعا من الطائفية المادية. بل هناك من اجتهد فبدأ الحديث عن الأقباط باعتبارهم “أهل ذمة” الأمر الذى مثل تراجعا حاسما عن المواطنة التى تحقق المساواة بين الجميع فى الوطن الواحد. ولكن لم يزل المناخ الطائفى قائما بدرجة أو أخرى رغم جهود دءوب كثير لتجاوز هذا المناخ من قبل الدولة أو روافد من الفكر الدينى المستنير التى انتجت أدبيات تصب فى اتجاه المواطنة.
2- المواطنة واشكالية صعود الدعوة لحقوق الإنسان/ الأقليات:
مع التحولات العالمية ونشوء مايمكن تسميته بالمجتمع الكونى والسوق الكونية, وتداخل المصالح الاقتصادية بين بلدان العالم. وان كان ليس بقدر متكافئ, فلقد اعطى البعض لنفسه (الطرف الأقوى بالطبع) حق التدخل فى شئون الدول الأخرى حرصا على مصالح الطرف الأقوى, ولإحكام السيطرة الكاملة التى تبدأ بالاقتصادى وتنتهى بالثقافىمرورا بالاجتماعى والسياسى. ويتم التدخل تحت مظلة حقوق الإنسان/الأقليات.. ورغم نبل فكرة حقوق الإنسان/الإقليات إلا أن الاشكالية هنا تكون مركبة بسبب عالمية هذه الدعوة, وأيضا بسبب أن قضايا التكامل الوطنى والعلاقة بين المسلمين والأقباط وأوضاع الأقباط باتت تناقش على أرض حقوق الإنسان/الأقليات. وهو أمر يمثل مسارا مختلفا عن مسارالمواطنة وبتنا نشهد نمو تيار يستبدل الموطنة بحقوق الإنسان/الأقليات. فبينما حقوق الإنسان تتحدث عن حقوق الإنسان المدنية حق أى انسان فى حريته أن يعبر عن نفسه, وبينما حقوق الأقليات تعنى حقوق جماعة متميزة عن أخرى, فإننا نجد ان حقوق المواطنة تتحدث عن المواطن الأكثر فاعلية مع الآخرين فى التحرك نحو المشاركة فى السلطة العامة فى “بلاده” من خلال المؤسسات الشرعية, الفرق واضح بل حاسم, وليت الأمر وقف عند هذا الحد بل تعداه فيما يعرف باصدار الولايات المتحدة الأمريكية لما يعرف بقانون التحرر من الاضطهاد الدينى وهو أمر تابعناه ودرسناه على مدى عام كامل من خلال وثائقه الأساسية وحذرنا من تداعياته وامكانية استثماره خاصة فى بيئة سياسية اقليمية قلقة.
3- المواطنة واشكالية الثروة:
احيانا وفى اطار التدليل على صحة التكامل الوطنى بين المسلمين والأقباط تجد كلاما يقول أن مجال الاستثمار مفتوح أمام الأقباط وإن رجال الأعمال القبط يمثلون عنصرا رئيسيا فى الواقع الاقتصادى المصرى. وهذا الكلام يوجد ربطا قسريا بين المواطنة والثروة. بحيث يتم الربط بين القدرة المالية أو الثروة المترجمة فى قدرة استثمارية وبين وضعهم كمواطنين يعيشون على أرض هذا الوطن. وهذا المنهج ينطلق من علامة شرطية بين الثروة – المال وبين المواطنة كفكرة وممارسة, فامتلاك المال واستثماره يعنى إمكانية ممارسة المواطنة, بل تصبح المواطنة بالأخير هى المقابل الموضوعى للمال. صحيح ان مفهوم المواطنة قد ارتبط تاريخيا بالوضع الاقتصادى للأفراد وبمدى مايملكون انطلاقا من مبدأ أن الفرد الذى لايملك شيئا ولا يدفع ضريبة ليس مواطنا, إلا أنه مع اتساع مجالات التعبير وصعود طبقات – فئات اجتماعية لاتصنف ضمن من يملك الثروة – المال, ولكن من حقها ان تشارك فى ادارة البلاد وتقتسم مواردها مع الآخرين, وبالقطع فان الاقباط ليسوا جميعا من رجال الأعمال فهم موزعون فى جسم المجتمع المصرى بكل طبقاته وفئاته أى ليسوا كتلة صماء يتماثل فيها أعضاؤها. وربما تكون هناك بعض المشكلات التى يعانى منها الأقباط الذين لايمتلكون الثروة من أبناء الفئات الوسطى الفقيرة لذا يجب الانتباه.
4- المواطنة واشكالية تقديم البيروقراطى على المثقف – السياسى:
من الأمور اللافتة للنظر والتى يشهدها مجتمعنا منذ فترة. انه عند معالجة بعض الآثار التى تترتب على بعض الاحتقانات الطائفية أو التى تتحول الى طائفية (حادثة الكشح), هو أن الذى نكلفه بعلاج هذه الآثار يكون “البيروقراطية” أو الجهاز الادارى المصرى, الذى يتسم بذهنية نفسية تحكمها اللوائح والبنود تهدف دائما الى الضبط والاحتواء لاتعطى مجالا للإبداع أو الغوص فى لب الأمور بحثا عن المستجدات. لذا نجد الماكينة البيروقراطية فى كل مرة تعيد انتاج نفس الرؤى والأفكار وتعالج الأمر بالاحتواء باستخدام نفس الآليات. فلا تجد حاجة الى ضرورة التجديد والتطوير, خاصة أمام ظاهرة مستمرة ومتكررة على مدى زمنى يزيد على ربع القرن. ومما يثير الحزن أنه أحيانا يتسخدم الجهاز الادارى منطق “دولة ما قبل المواطنة” فى التعامل مع الأقباط باعتبارهم جماعة أو طائفة وليسوا مواطنين. ربما يكون الاستثناء هنا, ومن واجبنا أن نذكر ذلك. هو موقف وزير الأوقاف حين بادر بحسم قضية عالقة عبر سنوات, أعنى قضيةالأوقاف القبطية بقرار/ اجراء ادارى.
فى هذا السياق يتراجع دور المثقف- السياسى, وفى أحسن حال يلعب أدوار ثانوية لاتزيد على الكتابة هنا أو هناك رغم أن هذه القضية: التكامل الوطنى/المواطنة تحتاج إلى ابداع السياسى – المثقف.
وبعد, أتصور أن الأحداث الأخيرة رغم أنها جنائية فى المقام الأول, إلا أنها وبسبب بعض الممارسات تحولت إلى طائفية,الأمر الذى يؤكد أن هناك مناخا مستعدا للإستثارة, مما يضعنا جميعا أمام مسئولية العمل نحوحل الاشكاليات التى تواجه المواطنة من حيث فهمنا لها, ومن تحققها على أرض الواقع. ان المواطنة مثلها مثل أى كائن حى يحتاج إلى الرعاية والمتابعة حتى يمكن أن ينمو, وفى نفس الوقت, فإن اهمال المواطنة وتجاهل الاشكاليات التى تواجهها – رغم الرصيد التاريخى الذى كونه المصريون – فإنما يعنى أن تأسر الجماعة الوطنية نفسها للمجهول.